برهاناً ساطعاً على أن هناك عاملا آخر ، غیر عامل الجهل والخوف ، وراء نشأة فكرة «الاله المعبود» هو الذي دفع الذهن الانساني الى الالتزام بهذه الفكرة والمعتقد الى اليوم؟
ولو قيل : صحيح أن العلماء والمفكرين في هذا العصر تغلبوا على الطبيعة وكبحوا جماحها ، وعرفوا اسرارها وعللها وتحرروا من الجهل والخوف ، ولكنهم ورثوا فكرة «الاله المعبود» من آبائهم وأسلافهم ، ولم يستطيعوا التخلص منها والتحرر من رواسبها.
فاننا نقول : وهل هذا الا ازدراء بمثل هؤلاء العلماء والمفكرين ، واحتقار لشأنهم ، وتجاهل لما هم عليه من سداد الفكر ، ورشادة العقل ، وقوة التحليل التي تأبى التقليد الأعمى ، وترفض التبعية الجاهلة.
هذا مضافاً إلى ما يرد على هذا الرأي من اشكالات سوف نذكرها عند مناقشة نظرية توارث العقيدة قريباً.
* * *
ثانياً : لو كانت علة نشوء العقيدة الدينية في النفوس هي الجهل والخوف من دون دخالة أي عامل عقلاني وفكري لوجب أن يكون مثل هذا الاعتقاد سارياً بين جميع دواب الأرض وحيواناتها ، وان يصدر من الحيوانات كل ما يصدر عن الانسان المعتقد المتدین من عبادة الله ، والايثار في سبيله والاحساس بالمسؤولية تجاهه مع ان البداهة تقضي ببطلان هذا الامر (١).
__________________
(١) وهذا لا يخالف ما عليه القرآن الكريم من تسبیح جميع الموجودات بحمد الله اذ يقول : وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (الاسراء ـ ٤٧) فان اقصی ما تدل عليه هذه الاية هو تسبيح كل شيء له سبحانه ، وهذا غير ما يفعله الانسان تجاه الله فهو يقدسه ويعبده ويجاهد في سبيله ويضحى بنفسه ونفيسه من أجله ويشعر بالمسؤلية تجاهه ، والعرفان بهذا النحو غير موجود لدى غيره.