وقد غفل «راسل» أن ملاك الاحتياج ليس هو الوجود بل وجود الشيء بعد ان كان معدوماً فالموجود الذي لم يكن له وجود سابق بل كان مسبوقاً بالعدم هو الذي يحتاج الى علة لتوجده ، أي تنقله من كتم العدم الى حيز الوجود لاكل موجود.
فاننا لو افترضنا الله موجوداً أزلياً لم يسبق وجوده أي عدم ، ولم ينفك عنه الوجود لحظة أبداً كما اسلفنا في بحث «ازلية الخالق» ، لم يكن حينئذ بحاجة الى علة ، لانه لم يحتج الى الايجاد ليحتاج الى علته ، حتى يكتسب الوجود منها ، ويلبس رداء التحقق بسببها ، وقد سبق منا أن امتناع التسلسل يحتم علينا القول بلزوم انتهاء سلسلة العلل والمعلولات الی موجود واجب وجوده ازلي كونه ، لم يسبقه عدم ، ولم يلحقه وجود بل الوجود والوجوب ذاته وعينه.
وحق القول ان «راسل» لم يكن فيلسوفاً متخصصاً في قضايا الفلسفة بل كان عالماً رياضياً واجتماعياً ومن هنا التبس الامر عليه وغابت الحقيقة عنه.
ثم ان هذا يدل على أنه لم يجد منهجاً فلسفياً صحيحاً ورصيناً يزيح له شبهاته ويعالج له مشكلاته.
* * *
الشاهد الثالث :
ما ذهب اليه اوغست كونت في كتابه محاضرات في الفلسفة الوضعية من تقسيم تاريخ تطور الفكر الانساني الى ثلاث مراحل :
الأولى : «المرحلة اللاهوتية» وهي التي فسر الانسان الحوادث والظواهر الطبيعية فيها باسم الاله وأسندها اليه مباشرة.
الثانية : «المرحلة الميتافيزيقية» وفيها فسر الانسان الحوادث باسم عناصر خارجية ما وراء الطبيعة ومبادئ مجردة كالقوى الروحية والنفوس والعقول.