وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (٥) [القصص : ٤ ، ٥].
ولا شك أن نسج الآيات متماسك ، بخيوط دقيقة غير قابلة لأن تنقطع وهى واضحة فى تصوير الحاكم الفاسد كيف يعلو فى الأرض ، وكيف يتحكم ، وقد قال الباقلانى فى صيغة العبارة بالنسبة للآية الأولى :
«هذه تشتمل على ست كلمات ، سناؤها وضياؤها على ما ترى ، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد ، ورونقها على ما تعاين ، وفصاحتها على ما تعرف».
وهى تشتمل على جملة وتفصيل ، وجامعة وتفسير ، ذكر العلو فى الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبى النساء ، وإذا تحكم فى هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما ، لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم ، والقلوب لا تقر على هذا الجور ، ثم ذكر الفاصلة التى أوغلت فى التأكيد ، وكفت فى التنظيم ، وردت آخر الكلام على أوله ، وعطفت عجزه على صدره.
ثم ذكر وعده بالتخليص بقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (٥) ، وهذا من التأليف بين المؤتلف ، والجمع بين المستأنس» (١).
هذا ما ذكره الباقلانى من ناحية التآخى فى الألفاظ والالتحام فى نسجها ، وإنك لتجد ذلك التآخى فى سوق العلو الذى تعالى به وهو فى الأرض ، فقال تعالى : (عَلا فِي الْأَرْضِ) فهو علو من فى الأرض ، ولاصق بها ، فليس يعلو إلى السماء ، ولكنه مستمر فى الأرض ، فهو استعلاء وليس بعلو ، والاستعلاء طلب للعلو ، أو الإحساس به ، وليس قائما على أى اعتبار ، فكان ذلك التقابل فى اللفظ من حيث الانسجام ، ومن حيث المعنى ، فيه دليل على أنه استكبار وليس علوا فى ذاته.
ولكن كيف يستقيم له هذا العلو ، وهو لاصق فى الأرض متنقل فيها ، إنما هو الغلو فى الكبر ، وحمل الناس على الإقرار أو السكوت ، أو ظهور الرضا وما هم براضين ، لأن أساس الرضا التخيير ولا اختيار ، فإن لم يكن فلا رضا.
ولننتقل من ذلك النص المصور للاستعلاء الكاذب الظالم إلى ما سلكه لحمل الناس على السكوت عنه ، أو الخضوع له كارهين ، وإن مردت نفوسهم على الخضوع ، حتى صاروا كالطائعين ، وذلة الإحساس بالتحكم قارة فى نفوسهم حتى أخضعتها ، فجعلتها خانعة ، وأظهرتها راضية ، ولا رضا عندها لأنه لا اختيار لها فيما تختار.
__________________
(١) إعجاز القرآن ص ٢٩٥.