وإنا لنرى هذا القصص المحكم قد ارتبط فيه الحكم بسببه. فهو فى جزء من القصص ذكر سبحانه ما كان بين الأخ وأخيه من محاربته فطرة الأخوة الرابطة ، وأنه حمل نفسه حملا على ارتكاب جريمته ، إذ هى مخالفة للطبائع السليمة ، ولذلك قال سبحانه وتعالى : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) حتى إذا تمت الجريمة رأى بشاعتها فى جثة أخيه ، فأراد أن يواريه فضلّ ، حتى رأى غرابا يبحث فى الأرض ليوارى جثة غراب مثله ، وعندئذ بدا له جهله وندم إذ رأى غرابا هو أحن على أخيه منه ، وهو أعلم كيف يوارى سوأة أخيه.
وما كانت أمور الناس لتترك فوضى. يجرم من يجرم ثم يندم ، فكانت شرعية القصاص ، لأن الاعتداء بالقتل اعتداء على حق الحياة فى كل إنسان ، ومن قتل نفسا بغير حق فهو على استعداد لقتل غيرها ، ففي عمله تعريض النفوس الإنسانية لاعتداء المعتدين المفسدين ، ومن أحياها بالقصاص من القاتل ، فكأنما أحيا الناس أجمعين ، كما قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩].
وإن هذا يدل على أن شريعة القصاص شريعة أزلية خالدة باقية ، وأنها كانت فى الشرائع السابقة ، ولم تخل شريعة من شرائع النبيين الكرام منها ، ولقد ذكرت بحكمتها ؛ ونتيجتها ، وهى إحياء للأمة وإهمالها إماتة لها.
ولا شك أن ذلك تصريف بيانى قرآنى فى بيان الأحكام.
وقد جاءت الأحكام أكثر تفصيلا فى بيان القصاص فى الأطراف مع النفس فى قصص عن بنى إسرائيل. والتوراة وما جاء فيها. ولنتل على القارئ الكريم بعض ما جاء فى ذلك ، وإن كنا سنتلو أكثر مما تلونا من الماضى ، ولقد قال الله تعالى فى وصف بعض بنى إسرائيل فى عصر النبى صلىاللهعليهوسلم الذين أرادوا أن ينفروا من حكم التوراة فى مجرم ارتكب جريمة ، لاجئين إلى النبى صلىاللهعليهوسلم حاسبين أن عنده حكما أخف من حكم التوراة ، لهوى فى نفوسهم. قال تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ