وتكررت المأساة بين اليهودى الذى استنصره بالأمس ومصرى آخر ، فيقوى صوت الضمير على استغاثة اليهودى ، ويعلم أنه فرعونى ضالّ كثير الشكاس ، وأن المصرى مظلوم فى معاملته ، ولكنه مع ذلك تغالبه فى نفسه مشاعر ، فيهم بأن يبطش بالذى هو عدو لهما. عندئذ نطق المصرى لائما ، مذكرا موسى بأنه يريد أن يكون جبارا فى الأرض ، وما يريد أن يكون من المصلحين الذين يعملون على الإصلاح بين المتخاصمين من غير إضافة اعتداء إلى اعتداء ، ويقول له فى عتب لائم : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (١٩) [القصص : ١٩].
وموسى فى نفس حائرة بين عز الدنيا وقد تركه وراء ظهره ، وجعل نداءه دبر أذنه ، وبين الحق والعدل والإخلاص وهو إلى الثانى يميل ، ومن الأول ينفر ، وبينا هو على هذه الحال يتردد بين ماض مريح ، وجديد يريد أن يخوض فى شدائده ، ليعيش كما يعيش قومه ، فيشاركهم فى ضرائهم وإذا النذير ينذره : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (٢٠) [القصص : ٢٠]. قضى الأمر ، وانتهت الحيرة ، واستقبل الحياة الجديدة بلأوائها وجها لوجه ، ولنترك القول لكتاب الله تعالى يذكر لنا حاله من بعد ذلك الإنذار. إذ نجد التصوير الذى تعجز عنه كل أدوات التصوير الساكن والمتحرك ، وهو يصور موسى قد أحس بخطر قوم فرعون ، وفرعون ، وآل مصر ، يترقبونه ، فالله يقول فى كلام مصور للأرواح والأشباح : (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (٢٤) [القصص : ٢١ ـ ٢٤].
تصوير للحيرة. فربيب النعمة خائف يترقب المتتبع والمترصد ، ويتوجه من ريف مصر وخضرته إلى لفح الصحراء وجدبها ، ثم هو يحس بالحاجة وهو الذى كان يتناول ويرمى ، وإذ لفحته الشمس أوى إلى الظل ، لا يرجو إلا الله ويعلم أن الله تعالى لا يتخلى عنه.
وإنى مهما أحاول من تصوير للقصة بعبارتى ، فلن نصل إلى ما يقع فى نفس القارئ إذا تلاها مجردة من غير تعليق عليها ، إنها تصور ربيب النعمة فى صورة كأنها المرئية ، وكأنها مشاهدة محسوسة ، وليس أخبارا مكتوبة أو متلوة.
إنه حائر ، فيفاجأ بإحدى المرأتين تأتيه تمشى على استحياء ، وهى تدعوه إلى أبيها ليجزيه أجر ما سقى لهما ، ويذهب الشاب القوى إلى الشيخ الضعيف ، وهنا يرى