فتكاد تبدى أمرها ، وتظهر سرها ، ولو علم به أعداؤه وأعداؤها أعداء الله تعالى ؛ ولكن الله تعالى يربط على قلبها بالصبر وهى تصبر ولكنها لا تسكن بل تتحرك بعمل ، فترسل أخته لتتقصى أخباره ، وتتعرف أحواله فترى المعجزة الكبرى ، إذ يمتنع عن المراضع ، حتى يعود إلى أمه وتأخذه أخته إلى الأم التى تضطرب بين اليأس والرجاء ، بين الأمل الباسم والحرمان الدائم.
اقرأ النص القرآنى ، وتراه مصورا لحال تلك الأم الرءوم. فهل تجد مصورا متحركا أو واقفا يستطيع تصوير هذه الحال ، ولكنه القصص القرآنى المصور الذى نزل من عند الله تعالى.
٨٩ ـ ولنعد إلى قصة موسى وقد تربى فى قصر فرعون ، حيث الترف والبطر ، وفى جو الغطرسة والسلطان ومن يدعى لنفسه الألوهية ، فهل شعر موسى بما يشعر به المترفون المسرفون ، الذين يستعبدون الناس ، ولكنه فى الوقت ذاته كان يعيش فى أحضان قومه ، حيث كان على كثب ممن يقتل فرعون أبناءهم ، ويستحيى نساءهم فهو البعيد عنهم بحسه القريب منهم بنفسه ، يعيش معهم ، وإن جفاهم فى المسكن والإقامة ، ولذلك كان القريب فى قصر فرعون المستأنس بمن يؤويهم فرعون ، فيعيش معهم.
ولقد بدا ذلك على أكمله يوم أن بلغ رشده ، واستطاع أن يخرج من محبس فرعون فى النعيم ، ويلاقى الحياة التى يلاقيها قومه ، ولقد قص الله سبحانه وتعالى قصصه بعد أن بلغ رشده ، وصار رجلا سويا ، فى أسلوب ينم على الرغبة فى الجهاد وتحمل شدائد الحياة ، فيقول سبحانه فى أحسن قصص مصور : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) [القصص : ١٤ ، ١٥].
خرج موسى من المحبس ، ودخل المدينة ، وأهلها لا يتوقعون أن يخرج رجل فى ظل القصر ، إلى حيث الشعب ، ينازل من ينازل ويسالم من يسالم إلى حيث الحياة اللاغبة العاملة ، فكان ذلك مفاجأة ، عبر عنها القرآن بقوله : (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) ، خرج ونفسه مملوءة غيظا على الذين كانوا أداة فى يد فرعون يسوم بهم الناس عذابا ، فوجد مصريا يقتل واحدا من شيعته فسارع إليه دفاعا عن اليهودى المعتدى عليه ، فاندفع فقتل المصرى.
ولكنه قد استرجع ضميره الذى كان فى غفوة بسبب العداوة المستحكمة بين العنصرين ، وبسبب ما رأى من فرعون ومن معه من جند وأشياع ، وأهل مصر صامتون كدأبهم عند ما يرون ظلما عنيفا صارخا يقفون كالنظارة ، لا يتحركون لظلم واقع ، ولا لهمّ مستحكم مانع.