وذلك ثابت فى أسلوب القصص ، كما هو ثابت فى كل أساليب القرآن الكريم من غير تخصيص فيها ، بل كلها درجة واحدة يعجز البشر عن أن يصلوا إليها ، فكل لفظ له إشعاع نورانى يشع منه ، وكل جملة ينبثق منها النور الإلهى الذى تنطفئ بجواره كل الأنوار.
ومع هذا فالقصص القرآنى باعتباره قصصا ، فيه إخبار عن أمم ووقائع وأنبياء يجادلون أممهم وأشخاص يعاندونهم ، وأن القصص يمتاز مع الصور البيانية التى تنبعث من الكلام مجردا ، بصور أخرى تصور الأشخاص والوقائع والمشاهد ، فإذا ذكرت حال شخص صور تصويرا واضحا كأنك تراه وتشاهده ، والعبارات تصور حاله من خوف ، أو حنان ، أو انزعاج أو جحود ، وكأن المعانى صور واضحة فى الشخص المتحدث عنه ، ولو أن مصورا متحركا يصور الشخص فى مشهد من مشاهد الذعر ، ما كان أكثر تصويرا من الألفاظ القرآنية والأساليب فى تصويرها.
ولنذكر فى ذلك بعض ما تلونا من قبل ، لنعيد تلاوة حال أم موسى ، وقد ولدت ولدها ، وهى تعلم أن فرعون يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم ، وتضطرها الفطرة الملهمة التى كانت بمثابة وحى أو هى وحى لها أن تلقى ولدها فى اليم ، لأنه خير لها أن يلقى لقدر الله تعالى وقضائه ، من أن يذبح بين يديها ، وهذا ما نعيد تلاوته ، وما أطيب القرآن فى إعادة تلاوته : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) (١٢). [القصص : ٧ ـ ١٢]
إن القصة ترينا صورة أم مضطربة منزعجة خائفة لما أثقلت ألقت حملها ، فإذا أثقال جديدة ، إنما تريد نجاته ، فيعلوها الاضطراب والخوف والفزع ، وإذ الإلهام يجيئها بإلقائه باليم مع إثلاج قلبها بألا تخاف ، وألا تحزن ، ومنّ الله تعالى عليها بالاطمئنان بأنه سيعود إليها ، وهكذا يكون الاطمئنان فى موطن الخوف ، والقرار فى موطن الاضطراب ، والسكون فى موطن الهلع ، يغيب عنها فلذة كبدها فيفرغ قلبها ، ويغلب الفزع على الاطمئنان وهى تغالب حال الفزع بحال الاطمئنان إلى أن وعد الله تعالى بالاطمئنان ، ويصطرع الأمران فى نفسها ، يغلب الإلهام فتطمئن ، ويغلب الفزع القلبى