أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) والنفى بصيغة هذا الاستفهام فيه مبالغة ؛ لأن فيه إشارة إلى أنه لا يسوغ لعاقل أن يكون منه ذلك التحريم ، لأنه عمل غير معقول فى ذاته ، إذ المؤدى : لا أحد حرم زينة الله من لباس ساتر ، ولا أحد يحرم طيبات الرزق التى لا خبث فيها من حيث الحقيقة ، ولا من حيث المعنى ، ما دام طريق الكسب طيبا ، وأن الله لا يأمر إلا بالقسط الذى يتفق مع الفطرة ، ولذا قال تعالى من بعد ذلك : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣) [الأعراف : ٣٣].
وقال سبحانه من قبل هذه الآيات : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١) [الأعراف : ٢٩ ـ ٣١].
٩٤ ـ وقد ذكر عبد القاهر فى كتابه دلائل الإعجاز الحكمة فى سبب تسمية الاستفهام بالإنكارى ، سواء أكان لإنكار الوقوع بمعنى النفى أم لإنكار الواقع ، بمعنى التوبيخ ، فقال رضى الله تعالى عنه :
«واعلم أننا وإن كنا نفسر الاستفهام فى مثل هذا الإنكار بالنفى ، فإن الذى هو محض المعنى أنه ليتبين السامع ، حتى يرجع إلى نفسه ، فيخجل ويرتدع ، ويبين الجواب ، إما لأنه قد ادعى القدرة على ما فعل ما لا يقدر عليه ، فإذا ثبت على دعواه قيل له فافعل فيفضحه ذلك ، وإما لأنه هم بأن يفعل ما لا يستصوب فعله ، فإذا روجع فيه تنبه ، وعرف الخطأ ، وإما لأنه جوز وجود أمر لا يجوز مثله ، فإذا ثبت على تجويزه وبخ على تعنته وقيل له : فأرناه فى موضع وفى حال ، وأقم شاهدا على أنه كان فى وقت. ولو كان يكون للإنكار ، وكان المعنى فيه من بدء الأمر لكان ينبغى ألا يجيء فيما يقوله عاقل : إنه يكون حتى ينكر عليه ، كقولهم أتصعد بى إلى السماء ، أتستطيع أن تنقل الجبال ، أإلى رد ما قضى من سبيل».
ومؤدى هذا الكلام أن الإنكار إذا كان نفيا لوقوع أمر ، فمؤداه أن الأمر لا يقع ، ولا يعقل أن يقع ، فهو نفى مؤكد ، إذ هو ليس نفيا للفعل فقط ، بل هو نفى له مع بيان أنه لا ينبغى ولا يجوز أن يقع ، وإذا كان الفعل قد وقع فهو توبيخ على الوقوع ، واستنكار له ، كما رأيت فى قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] ، ويلاحظ أن الإنكار سواء أكان إنكارا للوقوع بمعنى النفى