لقد كانت قريش تتنافس على السقاية وسدانة البيت الحرام ، وتتسابق إلى عمارته إن احتاج إلى عمارة ، ويحسبون أن ذلك يجعل لهم فضلا على الناس ولو كانوا مشركين ، وقد قرر سبحانه أن الإيمان بالله ورسوله ، والجهاد فى سبيله ، والتقدم لفداء الحق ونصرته لا يساويه مجرد السقاية والسدانة والعمارة ، ولو كان لبيت الله الحرام الذى هو مثابة للناس وأمن ، فالإيمان والعمل الإيجابى لنفع الناس وحماية الحق والذود عنه ، هو فى المكانة السامية ، وقد أتى سبحانه بذلك فى صيغة استفهام إنكارى ، وهو منصب على التسوية بين الأمرين ، وهو استنكار فيه توبيخ ، وفيه إبطال للباطل ، وإحقاق للحق ، وإعلاء لشأن الإيمان والجهاد ، وأنه فوق كل شأن.
ومن الاستفهام الذى يحكى عن المشركين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ما يذكر على سبيل الاستغراب ، وظن الاستحالة ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) (٥١) [الإسراء : ٤٩ ـ ٥١].
ومثل ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٥) [الرعد : ٥].
وإن هذه الاستفهامات هى من قبيل الإنكار ، والاستغراب ، فترى المشركين يعلنون إنكارهم للبعث ، ويستغربون أن يكون ، يستغربون البعث فى ذاته ، ويقرنون ذلك بحال الذين يموتون من بعثرة أجسامهم بعد أن يصيروا رفاتا ، ويضيفون إلى استغراب البعث فى ذاته ما يقررونه فى اعتقادهم من أحوالهم ، يحسبون أنها تبرر الإنكار ، أو تزيد الاستغراب ، فيسألون من الذى يبعثهم من مراقدهم ، ويوهم قولهم أن ذلك غريب.
وفى سورة الرعد فى النص الذى نقلناه يستغربون ويتعجبون ، يبين الله تعالى أن موضوع العجب هو عجبهم ؛ لأن البعث فيه سر الوجود ، إذ إنهم لم يخلقوا عبثا ، وإذا كان الابتداء ليس فيه عجب ، فالإعادة ليست فيها عجب أيضا ، فالاستغراب موضوعه استغرابهم هم.
وإنا نجد فى كل الأمثلة التى ذكرناها فى الاستفهام تصريفا فى القول يوجد جدة فى كل جملة عن سابقتها ، وإنه لو كان النفى أو الاستغراب والتعجب أو الاستنكار والتوبيخ بلغة واحدة ما كان التنويع فى التعبير. الذى هو ميزة لكل كلام. فضلا عن أبلغ كلام رأته الإنسانية ، لأنه تنزيل من حكيم حميد ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا