شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (٧٣). [الواقعة : ٥٨ ـ ٧٣]
ونرى هذه الاستفهامات المتقابلة التى يجيء فيها بين الاستفهامين لفظ أم التى تدل على التعادل بالظاهر من اللفظ ، ولكنها ليست متعادلة من درجة الحقيقة الثابتة فهى مقابلة بين حق وباطل ، للتنبيه على الحق بالدليل والتنبيه بالاستفهام بطريق التقابل ، فإذا كان التقابل بين أن يكونوا هم الخالقين للأنفس فى ظهور الآباء وبطون الأمهات إذ إن الخالق هو الله سبحانه ، فالفطرة والبداهة والحس تقرران الأول فالحكم بلا ريب ينتهى بمقتضى التقابل هو أن الخالق هو الله سبحانه ، وكذلك الأمر فى الزرع ، وكذلك الأمر فى الماء ، وكذلك الأمر فى النار.
فهو استفهام ليس على حقيقته. ولا للإنكار المجرد ، ولكنه للتنبيه ، والاستدلال على الحق بالإشارة إلى البطلان الذى يكون فى الجانب المقابل للحق ، فإنه إذا بطل النقيض كان الحكم بصحة نقيضه ، فإذا كان التردد بين كونهم الخالقين ، والخالق هو الله ، وتأكد بالحس بطلان وصفهم بالخلق فقد ثبتت صفة الخلق لله تعالى ، وبذلك يكون الاستفهام للتنبيه والاستدلال كقوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤) [سبأ : ٢٤].
ومن ذلك النوع ما حكاه الله تعالى عن سيدنا يوسف ، وهو يقول لصاحبى السجن : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٣٩) [يوسف : ٣٩] فإن هذا التقابل بين باطل تثبت البداهة بطلانه ، وإذا بطل أحد المتقابلين صدق الآخر ، فكان الاستفهام للتنبيه إلى الحق مؤيدا بالدليل القاطع.
٩٩ ـ والاستفهام للتنبيه كثير فى القرآن ، وكذلك لإثارة العجب حول ما يدعون من ترهات وأباطيل وبيان وجه غرابتها ولا يمكن إحصاء ذلك ، واستقراؤه وتتبعه ، ولكن يمكن ضرب الأمثال ، وما يذكر يكون شاهدا على ما لم نرطب ألسنتنا بتلاوته ، ولا أسماعنا بالاستماع له والإنصات والتدبر فيه.
اقرأ قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) (٢٩) [الذاريات : ٢٤ ـ ٢٩] إلى آخر القصة ، وترى القصة ابتدأت بالاستفهام للتشويق ، وللتنبيه إلى الاستماع ، وقد ابتدأت بعبارة فيها إجمال لتكون تمهيدا لما يجيء بعد ذلك من التفصيل.