على تغييرها ، وإذا كان الاستنكار على ما وقع توبيخا لمن أوقعه ، فالاستنكار لأمر لم يقع بظاهر الحال ، واستصحابها ، تحريض على تغييرها ، وتوجيه للإتيان بها.
وإن الاستفهام الذى ينطبق عليه قول بعض الكتاب فى علم البلاغة وهو : نفى النفى إثبات ـ يكون فى مثل قوله تعالى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠) [القيامة : ٣٧ ـ ٤٠] وترى من هذا أن الاستفهام دخل على النفى فكان إنكاريا لنفى الوقوع ، فنفى على زعمهم القائل أنه لم يك فى نشأته من منى ، أو كانوا عن ذلك فى غفلة ساهين وكانوا فى حاجة إلى التذكير ، والإحساس بمبدئهم ، ليعرفوا منتهاهم ، وأن الذى أوجدهم من منى أشخاصا ذكورا وإناثا قادر على إعادتهم ، كما بدأهم يعودون.
فالاستنكار لجهلهم هذه الحقيقة ، أو تجاهلهم ، وكأنهم لا يعلمون ، فاستنكر هذا عليهم فكان نفيا مستنكرا لحال التجاهل.
ولا شك أن هذا فيه تنبيه ، وفيه لوم على تجاهلهم تلك الحقيقة ، وبيان أنه يجب عليهم أن يعرفوها ، ليكونوا فى تذكر دائم بقدرة الله تعالى فى تدرجهم فى الوجود من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ، ويعلموا بذلك قدرة الله تعالى على الإعادة.
ومن الاستفهام الداخل على النفى الذى هو من قبيل أن نفى النفى إثبات ، التنبيه إلى أن النبى يصنع على عين الله تعالى ، ويتولاه وألا يكون فى يأس من رحمة الله تعالى ، ومن ذلك قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨) [الشرح : كلها].
فإن الاستفهام هنا لإنكار الوقوع ، أى لإنكار أن الله تعالى لم يشرح صدر النبى صلىاللهعليهوسلم ليتلقى الوحى الذى أوحى به إليه ، وإذا كان الإنكار نفيا فالمؤدى للقول : قد شرحنا صدرك ، وكان الاستفهام للنفى.
١٠١ ـ وإننا فى ختام هذا البحث من التصريف البيانى فى القرآن نقرر بالنسبة للاستفهام فيه ، أن الاستفهام باب من تصريف القول فى القرآن ، وفيه من أسرار الإعجاز ما فيه ، فمن الاستفهام ما يكون بعبارات تتفق مع النسق العربى السليم ، ولكنه لم يعرف بين البلغاء قبل القرآن ، وإنى أرى أن أكثر صيغ الاستفهام التى جاء بها القرآن غير مسبوقة قبله ، وأن الاستفهام كان يستعمل أحيانا للتنبيه ، وأحيانا للاستدلال ، وأحيانا للتعجب ، وأحيانا ليوجه الأنظار إلى الكون وما فيه ، وما يجرى بين الناس ، وأن ذلك كله مما يدل على علو القرآن على مستوى ما كان عليه أكبر البلغاء ، وأقواهم سلطانا فى الأسلوب العربى.