وقدمنا الاستعارة لأنها أشهر وأكثر فى القرآن ، وأكثر تصويرا لمعانى البيان ، والصور البيانية القرآنية فيها أوضح ، وقد ضربنا على ذلك الأمثال ، وقصر عبد القاهر فى كتابه دلائل الإعجاز القول على الاستعارة وما يتبعها من تمثيل وضرب للأمثال ، فقد قال رضى الله تبارك وتعالى عنه :
وأنا أقتصر هنا على ذكر ما هو أشهر منه (أى من المجاز) وأظهر ، والاسم والشهرة لشيئين الاستعارة والتمثيل ، وإنما يكون التمثيل مجازا إذا جاء على حد الاستعارة.
فالاستعارة أن تريد تشبيه الشيء بالشىء ، فتدع أن تفصح بالتشبيه وتظهره وتجىء إلى اسم المشبه به فتعتبره المشبه وتجريه عليه ، تريد أن تقول رأيت رجلا هو كالأسد ، فى شجاعته وقوة بأسه سواء ، فتدع ذلك وتقول رأيت أسدا.
وأما التمثيل الذى يكون مجازا لمجيئك به على حد الاستعارة فمثاله قوله فى الرجل يتردد فى الشيء بين فعله وتركه ، أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، فالأصل فى هذا أراك فى ترددك كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، ثم اختصر الكلام ، وجعل كأنه يقدم رجلا ويؤخر أخرى على الحقيقة.
وكذلك نقول للرجل يعمل فى غير معمل : أراك تنفخ فى غير فحم ، وتخط على الماء ، فتجعله فى ظاهر الأمر كأنه يخط ، والمعنى على أنك فى فعلك كمن يفعل ذلك ، ويقول فى الرجل يعمل الحيلة ، حتى يميل صاحبه إلى الشيء قد كان يأباه ، ويمتنع منه : ما زال يفتل له فى الذروة والغارب ، حتى بلغ منه ما أراد ، فتجعله بظاهر اللفظ كأنه كان من فتل ذروة وغارب ، والمعنى على أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقا يشبه حاله فيه حال الرجل يجيء إلى البعير الصعب ، فيحكه ، ويفتل الشعر فى ذروته وغاربه ، حتى يسكن ويستأنس ، وهو فى المعنى مثل الرجل يقول فلان يقرد فلانا ، يعنى به أنه يتلطف له فعل الرجل ينزع القراد من البعير ليلذ لذلك ، فيسكن ويثبت فى مكانه ، حتى يتمكن من أخذه ، وهكذا كل كلام رأيتهم قد نحوا فيه هذا التمثيل ، ثم لم يفصحوا بذلك ، وأخرجوا مخرجه ، وإن لم يريدوا تمثيلا.
وإن الأمثال كلها من قبيل التمثيل ، وهو من باب الاستعارة ، كما قال عبد القاهر ذلك ؛ لأن الاستعارة ذات شعبتين ، إحداهما أن تكون فى تشبيه شىء بشيء ، من غير أداة كتشبيه الرجل بالأسد ، وتشبيه شيوع الشيب فى الرأس باستعار النار فى وقودها ، والشعبة الثانية تشبيه حال بحال ، وهو التمثيل ، وهاتان الشعبتان تجريان فى التشبيه الذى يكون بأداة التشبيه ، كما تكونان فى الاستعارة ، إذ إنهما متلاقيان فى المعنى والاختلاف فى طريقة الأداء.