وإن هنا عبارتين ساميتين فيهما كناية واضحة ، وقد علمت أن كنايات القرآن تدل على اللازم والملزوم ، ويقصد بالعبارة الأولى قوله تعالى : (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) أنه يراد بها ما تحويه الألفاظ الظاهرة من معان عالية ، وفيها إثبات قدرة الله تعالى بإخراج حبة الخردل من صخرة أو فى السموات أو فى الأرض ، هذا هو ما تدل عليه الألفاظ ، وهناك اللازم لهذا ، وهو إثبات علم الله الذى لا يخفى عليه خافية ، وإثبات قدرة الله تعالى الذى لا يعجز عن شىء فى السماء ولا فى الأرض ، ولازم لهذا اللازم ، وهو البعث والنشور ، لأنه إذا كان سبحانه وتعالى قادرا على أن يأتى بالحبة من الصخرة أو من أى جزء فى السماء أو الأرض ، فهو قادر على إعادة ما خلق ، ويتلاقى ذلك القول الحكيم مع قوله تعالى : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (٥٢). [الإسراء : ٥٠ ـ ٥٢]
العبارة السامية الثانية حكايته تعالى لقول لقمان : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ) .. إلى قوله تعالى : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٩) [لقمان : ١٨ ، ١٩] فإن هذه الأوامر يراد منها ما يدل عليه ظاهر الألفاظ من أنه لا يصعر خده للناس بأن يميله عن شكله ، فلا يقبل عليه بكل وجهه ، ومن أنه يقصد فى مشيه فلا يتباطأ ولا يسرع ، بل يسير بتؤدة واطمئنان ، ومن أنه يغضض من صوته ، فلا يتعالى ويتكلم صياحا ، ويراد أيضا معنى لازم لها وهو التضامن والاتصال بالناس برفق ومودة من غير كبرياء ، وألا يغمط الناس حقوقهم ، وألا يبطر نعمة الله تعالى ، وألا يدلى نفسه بغرور ، لأن الغرور مطية الشيطان ، والسبيل إلى العصيان.
١١٨ ـ هذا ، وإن الكنايات فيها الإشارة البيانية التى تكون لوازم للعبارات ، ولقد قسم علماء الأصول دلالة الألفاظ القرآنية إلى دلالة العبارات ، سواء أكانت هذه العبارات تدل بالدلالة الحقيقية من غير تشبيه أو دلالة فيها تشبيه أو فيها مجاز ، بالاستعارة أو غيرها من أنواع المجاز ، وبجوار ذلك دلالة الإشارات ، وهى دلالة اللوازم ، وإنه كلما كانت دلالة اللوازم كانت البلاغة.
ولنقبض قبضة من الآيات التى قال الفقهاء : إن فيها دلالة على الأحكام بالإشارة ، أى بالكناية أو بدلالة الملزوم على اللازم ، وهى تفهم كنتيجة لازمة للعبارة ، وقد قالوا فى تعريفها أن الدلالة بالإشارة هى ما يدل عليه اللفظ بغير العبارة التى تدل عليها الألفاظ ، ولكنه يكون نتيجة لازمة لما تدل عليه ألفاظ العبارة ، ومن ذلك قوله