بين نفى أمر معين فى مكان معين وزمان معين ، وإثباته فى هذه الحال ، فإن انتفى بالدليل كان ذلك حكما بوجود نقيضه.
فدليل الخلف أن يبطل النقيض ، فيثبت الحق ، وأن القرآن الكريم يتجه فى استدلاله إلى إبطال ما عليه المشركون فيبطل عبادة الأوثان ، فيثبت التوحيد.
ومن ذلك الاستدلال على التوحيد قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢٢) [الأنبياء : ٢٢] ، هنا نجد الاستدلال القرآنى اتجه إلى إثبات الوحدانية بدليل قياس الخلف ، وتقرير الدليل من غير أن تتسامى إلى مقام البيان القرآنى ، كما يسوقه علماء الكلام ، هكذا : لو كان فى السموات والأرض إله غير الله لتنازعت الإرادتان بين سلب وإيجاب ، وإن هذا التنازع يؤدى إلى فسادهما ، لتخالف الإرادتين ، ولكنهما صالحان غير فاسدين ، فبطل ما يؤدى إلى الفساد ، فكانت الوحدانية ، فسبحان الله رب العرش عما يصفون. ويسمى علماء الكلام هذا الدليل دليل التمانع ، أى امتنعت الوثنية لامتناع الفساد ، فكانت الوحدانية.
ومن القياس الذى يعتبر قياس الخلف قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٩١) [المؤمنون : ٩١] ، أى وإن ذلك باطل ، فما يؤدى إليه باطل ، وبذلك ثبت التوحيد.
ومن قياس الخلف قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (٤٢) [الإسراء : ٤٢] ، وهذا أيضا من قبيل فرض التمانع الذى يؤدى إلى الفساد ، ولا فساد ، فيبطل ما يؤدى إليه.
ومن قياس الخلف فى إثبات أن القرآن من عند الله سبحانه وتعالى قوله تعالت كلماته : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٨٢) [النساء : ٨٢] وإذا ثبت أنه ليس فيه اختلاف ، ولا تضارب فى مقرراته ، ولا عباراته ، فإنه يثبت النقيض ، وهو أنه من عند الله تعالى.
ونرى أنه فى كل هذه الآيات البينات كان إثبات المطلوب بإبطال نقيضه ، وقد أشرنا إلى ذلك فى كل آية مما تلونا.
ثم إنك ترى مع هذا القياس الذى واجه المخاطبين بإبطال ما يدعون ليثبت ما يدعوهم إليه الرسول ، معنى ساميا قويا ، وهو مهاجمة المخالفين بإبطال ما عندهم ، وأنه ليس من القول الذى يقام له دليل ، وإن ذلك يوهنهم وينهنه من قوتهم ، ولذلك كانوا يشكون من النبى لأنه يسفه أحلامهم ، ويصغر من أصنامهم.