كيف ابتدأ خلق الإنسان من طين ، ثم جاءته الأطوار المختلفة حتى آل إلى القبر ثم كيف خلق الأحياء فى الأرض من نبات وحيوان واهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ، وإن كل ذلك دليل على قدرة المنشئ علام الغيوب ، بديع السموات والأرض ، وأنه على ما يشاء قدير.
وإن هذا النسق البيانى قرب فيه البعيد ، وسهل على الأفهام دخوله والله على كل شىء قدير.
واقرأ فى هذا النوع من الاستدلال قوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (٨١). [يس : ٧٨ ـ ٨١]
وتجد فى الآيات الكريمات عقد المشابهة بين ابتداء الخلق وإعادته فى أبلغ تعبير وأسلم تقرير ، وإن فى هذه الأمثلة وغيرها مما اشتمل عليه القرآن الكريم قياس ما فى الغيب على المشاهد ، وقياس ما بينه الله تعالى ، وأوجب الإيمان به على ما هو واقع مرئى مشاهد ، فيه الدلالة الكاملة على قدرة الله تعالى ، وأنه المالك لما هو واقع ، والقادر على ما لم يقع الآن ، وسيقع ، كما وعد ، ووعده لا يتخلف.
١٥٩ ـ هذا ، ويلاحظ القارئ للقرآن التالى لآياته ، المتبصر فى عبره وعظاته ، والدارس لأدلته ـ أن جدل القرآن لا يتجه إلى مجرد الإفحام والإلزام ، بل يتجه فى الكثير الغالب إلى إرشاد القارئين والمدركين ، والأخذ بأيديهم إلى الحق ، وتوجيه النظر إلى الحقائق ، وما فى الكون من دلائل على القدرة ، كما ترى فى قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١١) [ق : ٦ ـ ١١].
فترى فى هذه الآيات أن البيان فيها ليس مجرد إفحام الوثنيين ومنكرى التوحيد ، بل فيه توجيه إلى الكون ، وما فيه من دلائل القدرة ، وعجائب الصنع وما فيه من سماء زينت ببروجها ونجومها ، والأرض وما فيها من رواسى : كأنها تمسكها أن تميد ، وما فيها من نبات يحصد فى إبانه ، وجنات تونع وتثمر فى وقتها.