واقرأ قوله تعالى فى سورة الرحمن : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٨). إلى آخر السورة الكريمة. وفى هذا ترى الاستدلال القوى متجها إلى الإرشاد إلى ما فى الكون ، وما أنعم الله به على الإنسان من علم بما لم يكن يعلم وما علمه من الشمس والقمر ، وما علمه من معاملات كريمة ، وتعاون إنسانى مبنى على الفضيلة ، وعلمه كيف خلق الإنسان ، وهكذا من استدلال حكيم ، وإرشاد وتوجيه وتعلم.
وإنه إذا اتجه القرآن الكريم إلى الإلزام والإفحام ، لا يلبث أن يأخذ بيد المعاند إلى الحقيقة يبينها واضحة جلية لا ريب فيها ، كما ترى فى قوله تعالى رادا على المشركين طلبهم أن يكون الرسول ملكا :
(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٩) [الأنعام : ٨ ، ٩].
فإنك ترى أن فى ذلك إفحاما لهم من ناحيتين : الناحية الأولى أنهم لو أجيبوا إلى ما يطلبون لقضى عليهم ما هددهم الله تعالى به ، ولا ينظرون ، والثانية أنه لا يزول اللبس الذى يلبسون به الحق بالباطل لأنه لو جعله الله تعالى ملكا لجعله فى صورة رجل ، وبذلك يجيء الالتباس الذى لبس به عليهم.
ومن الاستدلال المفحم الهادى قوله تعالى فى الرد على اليهود ووصفهم :
(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٨٣) [آل عمران : ١٨٣].
وكما ترى فى قوله تعالى ردا على الذين ينكرون الرسالات الإلهية ، فقد قال تعالت كلماته : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) [الأنعام : ٩١] ويظهر أن الذين قالوا هذا القول من اليهود ، قالوه لينكروا رسالة النبى صلىاللهعليهوسلم.
وفى هذه الآيات التى تلوناها ترى الإلزام المفحم ، والحجة البالغة ، والفيصل الفارق بين الحق والباطل ، قد أدحضت به حجة الخصوم وأرشدوا إلى المحجة ،