واعتمد مع نور الحق فى ذاته على نور القرآن المبين الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فهو فى هدأة الداعى الرشيد يدعوهم إلى هجر عبادة الأوثان ، ويقرأ عليهم القرآن الكريم ، ففي دعوة الحق وفى القرآن البرهان القاطع والضوء اللامع.
كانوا ينفرون من الحق المجرد ، لأنه يخالف ما ألفوا ، وما وجدوا عليه آباءهم : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (١٧٠) [البقرة : ١٧٠].
ولكنهم إذا استمعوا إلى القرآن تحيرت الأفهام ، واضطربت أحوالهم بين قديم ألفوه ، وحق فى القرآن عرفوه ، فهم يحاورون فى الحق ، ولكن لا يدرون ما ذا يدفعون به القرآن الذى يحمله ويدعو إليه وإلى ما جاء به ، وإنهم بذوقهم البيانى يجدون أنه فوق كل كلام ، ولا يمكن أن يجرى به لسان من ألسنتهم وأمثالهم ، بل لا يمكن أن يأتى به محمد من عنده ؛ لأنهم من قبل عرفوا كلامه ، وقد رأوه عاليا فى جوامع كلمه ، ولكن القرآن أعلى من طاقة الإنسان ومن طاقة محمد ذاته.
ما ذا يقولون فيه؟ أيقولون أنه باطل وقد كبروا ما هو دونه من قصيد ورجز ، إن فى ذلك كانت الحيرة ، وهم من الناحية البيانية لم يتهافتوا ولم يسفوا فى القول ؛ وإذا كان فيهم حمقى حاولوا أن يجاروه ، أو ادعوا أنهم يجارونه ، وعرضوا ما قالوا ، فنال الاستضحاك والسخرية ، وزاد القرآن الكريم مكانة وتقديرا ، وما كان لأمثال أبى سفيان والوليد بن المغيرة أن يسفوا بأنفسهم ذلك الإسفاف ، بل إنه لم يسف إلى هذا عمرو ابن هشام (أبو جهل) لأنه يعلم مقدار علوه ، فلا يتهافت إلى إنكار مكانته فى البيان ، فهو يستبيح أذى النبى صلىاللهعليهوسلم وأذى أصحابه ، ولا يستبيح الطعن فى مقام القرآن البيانى ؛ لأنه يلحقه الطعن بالأذى والتصغير ، ولا يلحق محمدا الذى نزل القرآن عليه وخاطب به الناس أجمعين ، ولنذكر لك أخبار من سمع القرآن ، وخر بين يديه صاغرا مع شدة العداوة والملاحاة واللدد والخصومة ، والبقاء على الكفر ، والإصرار على الشرك.
٢٩ ـ (أ) سمعه الوليد بن المغيرة فرق له رقة لم تعرف فيه نحو الإسلام فخشى أبو جهل (عمرو بن هشام) أن يسير فى الطريق القويم إلى الإسلام ، فأنكر عليه أبو جهل حاله ، ولكنه لم يستطع أن يقول فى القرآن شيئا ، فقال له الوليد :
«والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار منى ، أعرف رجزها وقصيدها ، والله ما يشبه الذى يقوله شيئا من ذلك ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق. وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، ما يقول هذا بشر».
ولقد اجتمعت قريش عند الوليد يتذاكرون ما ذا يقولون فى القرآن. وقد رأوا العرب يفدون ، ويستمعون إلى النبى صلىاللهعليهوسلم ، فيبلغ القرآن منهم أعماق نفوسهم ، فكيف