(ب) وأيضا فإنه لو كان العجز لأمر خارجى لا لأمر ذاتى فيه بأن تكون عندهم القدرة على أن يأتوا بمثله ولكن صرفوا ، فإن ذلك يقتضى أن يثبت أولا أنهم قادرون على مثله ، وهم أولا قد نفوا ذلك عن قدرتهم ، وليس لنا أن نفرض لهم قدرة قد نفوها عن أنفسهم ، لو كانوا قادرين لكان من كلامهم قبل نزول القرآن عليهم ما يكون متماثلا فى نسقه ونسجه ، وله مثل رنينه وصوره البيانية فى شعر أو نثر ، ولكن المتتبع للمأثورات العربية ، فى الجاهلية والإسلام لا يجد فيها ما يقارب القرآن فى ألفاظه أو معانيه أو صوره البيانية.
ولذا لجأ الباقلانى (١) فى كتابه إعجاز القرآن إلى الموازنة بين القرآن ، وبين المعروف من أبلغ الكلام فى الجاهلية ، ويقول فى ذلك «ولو كانوا صرفوا على ما ادعاه لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به فى الفصاحة والبلاغة ، وحسن النظم ، وعجيب التأليف ، لأنهم لم يتحدّوا به ، ولم تلزمهم حجته ، فإذا لم يوجد فى كلام قبله مثله علم أن ما ادعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان ...».
(جـ) وإننا لو قلنا أن الذى منع العرب من الإتيان بمثله هو الصرفة ما كان القرآن هو المعجز ، وإنما يكون العجز منهم ، ولم يكونوا عاجزين ، وإنما يكونون قد أعجزهم الله ، ولم يعجزهم القرآن ذاته ، وقد كان القرآن هو معجزة النبى صلىاللهعليهوسلم ، والقول بالصرفة ينفى عنه خواص الإعجاز.
وإن معجزات النبيين السابقين ما كان فى طاقة الناس أن يأتوا بمثلها فى ذاتها ، ولم يكن بصرف الناس أن يأتوا بمثلها ، فمعجزة العصا ، وتسع الآيات التى لموسى عليهالسلام ما كان العجز من الناس بالصرف ولكن بالعجز الحقيقى. فلما ذا لا تكون معجزة النبى صلىاللهعليهوسلم كسائر المعجزات ، وهى أجل وأعظم.
(د) وإن الله تعالى قد وصف القرآن بأوصاف ذاتية تجعله فى منزلة لا تصل إليها معجزات أخرى ، فكانت هذه توجب أن يكون إعجازه ذاتيا ولقد قال تعالت كلماته :
(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) [الرعد : ٣١].
ويقول جل من قائل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢٣) [الزمر : ٢٣].
وإذا كان القرآن بهذه الأوصاف التى وصفه بها منزله سبحانه وتعالى ، أفيقال بعد ذلك أن الناس يستطيعون أن يأتوا بمثله؟ اللهم إن ذلك بهتان عظيم.
__________________
(١) توفى سنة ٤٠٣ ه.