(ه) وإن مثل الذين يقولون : إن إعجاز القرآن بالصرفة ، كمثل الذين قالوا : إن القرآن سحر يؤثر.
وقد أثبت ذلك الرافعى فى كتابه إعجاز القرآن ، فقال : «وعلى الجملة فإن القول بالصرفة لا يختلف عن قول العرب إن هذا إلا سحر يؤثر ، وهذا زعم رده الله تعالى على أهله ، وأكذبهم فيه ، وجعل القول فيه ضربا من العمى (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) (١٥) [الطور : ١٥].
وإن التشابه بين القول بأنه سحر أن الامتناع عن المماثلة فى كليهما من خارج الشيء لا من ذاته ، فالقول بالصرفة يفيد أن العرب لم يكونوا عاجزين. ولكن حيل بينهم وبين العمل على المماثلة ، وكذلك الأمر فى السحر يشدههم ، حتى يعجزوا.
ولقد سبق أن علل المشركون عجزهم بعد التفكير والتقدير بأنه سحر يؤثر.
قال تعالت كلماته فى شأن الوليد بن المغيرة : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (٢٥) [المدثر : ١١ ـ ٢٥].
هذا ما وصل إليه الوليد بن المغيرة بعد أن قدر ودبر فى ملأ من قومه ، يجيء كاتب متفلسف فيأتى بهذا القول من غير تقدير ولا تدبير.
٣٧ ـ ومهما يكن من بطلان هذه الفكرة ، فقد أدت إلى إنشاء علوم البلاغة فى ظل القرآن ، فاتجه الكاتبون إلى بيان أسرار البلاغة فى هذا الكتاب المبين ، المنزل من عند الله الحكيم ، قرآنا عربيا ، فكان هذا الباطل سببا فى خير كثير ، وكما يقول المثل السائر (رب ضارة نافعة) ، فقد تولد عن هذا الباطل دفاع حكيم ، ولدت منه علوم البلاغة العربية ، وكما تولد عن الخطأ فى تلاوة آية «علم النحو» تولدت علوم البلاغة العربية. وإن أكثر ما كتب الأولون فى البلاغة والفصاحة كان فى ظل القرآن ، ومحاولة لبيان إعجازه.
وإن أول ما كتب فى إعجاز القرآن من ناحية البيان كان فى الوقت الذى جاء فيه القول بالصرفة ، بين نفى وإثبات كما أشرنا ، وأول من عرف أنه تصدى للكلام فى الإعجاز فى نظم القرآن هو الجاحظ ، تلميذ النظام ، الذى أنكر عليه قوله ، وعابه فى منهاجه الفكرى من أنه يظن الظن ، ثم يجعله أصلا يجرى عليه القياس مصححا لقياسه