وأذكر أن نقاد العرب كانوا يستنكرون بيت امرئ القيس الذى يقول فيه فى معلقته :
أغرك منى أن حبك قاتلى |
|
وأنك مهما تأمرى القلب يفعل |
فقد قالوا أن البيت لا يصدر من عاشق برح به الحب ، وأحس بلطف العشق ، وقالوا : إن الغانية إذا لم تعتز بالحب ففيم تعتز ، كأنه يقول لها : إن كنت مغرورة بحبى فإنى تاركك ، وهكذا ، وما ذلك شأن المحب اللهج.
٤٢ ـ هؤلاء الذواقون للبيان الذين مرنت أسماعهم ، وألسنتهم على القول البليغ وإدراك مراميه ، يستوى فى ذلك أهل المدر وأهل الوبر ، فأهل الوبر استفرغوا ذكاءهم فى تعرف الكلام البليغ ، والترنم بالشعر رجزه وقصيده ولم يكن عندهم ما يزجون فيه وقتهم إلا سماع الكلام الطيب ، وترديده ، وروايته ونقله. ويرطبون به ألسنتهم فى حلهم وترحالهم ، وانتجاعهم إلى مواطن الكلأ ، وينابيع المياه ، قد صفت نفوسهم صفاء السماء التى تظلهم مع قوة الشكيمة التى اكتسبوها من وعورة الصحراء ولأوائها ، وقسوة الحياة وغلظتها ، ومع الرضا والقناعة التى اتسمت بها النفس العربية.
وأهل المدر وهم سكان القرى كأهل مكة والطائف ويثرب ، وقد كانوا قوما تجرا. من غير أن يخلوا من الشكيمة العربية ، وقد كانت القبائل تجىء إليهم ، أو يلتقون بهم فى مواسم الحج وأسواقه التى كانت تعقد لتبادل السلع ، وتبادل الفكر ، والكلم المحكم ، ويكون التبارى بين الشعراء والخطباء. وكانت مكة وما حولها تشبه بعض الحدائق العامة فى البلاد الأوربية تلقى فيها الخطب ، ويتبارى فيها المتكلمون ، وحسبك أن تعلم أن قس بن ساعدة الإيادى ألقى خطبته التى ذكر فيها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى عكاظ فى موسم الحج.
هؤلاء الذين كانت الكلمة البليغة تقع من نفوسهم موقع الموسيقى فتطربهم ، والقصيدة الطويلة فتهزهم ، وكان حداؤهم لإبلهم رجزا ، وتدليلهم لأبنائهم أنماطا من البيان ، هؤلاء هم الذين خاطبهم القرآن فرأوا فيه نوعا من البيان لم يعرفوه من قبل ، فانجذبوا إليه ، وأقروا بتأثيره ، ولم يستطيعوا أن يماروا فيه ، بل خروا صاغرين أمام بلاغته ، معترفين بأنه يسمو على قدرهم ، ويعلو على طاقاتهم ، كفروا بما يدعو إليه ، ولم ينكروا تأثيره ، لاحوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى دعوته إلى التوحيد ، وتماروا فيه ، مع بداهته ، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينالوا من القرآن ، ولما دبروا وقدروا فى أمره ، قالوا : إنه سحر يؤثر. وذلك يتضمن الإقرار باستيلائه على نفوسهم وعلوه على كلامهم وإن كان من نوعه ، وسمو معانيه وإن كانت حروفه فى صياغة من حروفهم وكلماتهم.