معان تتساوق مع المعنى الجملى للكلام ، وأن كل كلمة تكون بمفردها صورة بيانية تكون جزءا من الصورة العامة للقول ، وقلنا أن ذلك ليس معناه أن الكلمة لو جردت من الكلام تعطى وحدها ذلك الإشراق ، ولكن ينبثق نورها بالتضام مع غيرها من غير أن يفنى ضوؤها فى ضوئه ، ولا تنمحى صورتها البيانية التى أشرقت بهذا التضام.
وقلنا أن ذلك لم ينكره أحد حتى الجرجانى (١) الذى تشدد فى اعتبار الأسلوب وحده هو سر الإعجاز ، من غير التفات إلى معانى المفردات.
وإذا أردنا أن نحرر القول الذى رآه الأكثرون ، وخالف فيه الجرجانى ومن لف لفه ، فإننا نقول أن كلمات القرآن لها فى تناسق حروفها ، وتلاقى مخارجها إشراق بلاغى ، ولكن لا ينكشف ذلك الإشراق إلا بالتضام ، أى أن الإشراق ذاتى ، وهو الأصل ، ولكن شرط ظهوره تضام الكلمة مع غيرها.
وفى هذا المقام نتكلم على الأسلوب والصور البيانية التى تتكون منه ، والتآخى بين ألفاظه فى النغم وفى تناسق القول ، بحيث تكون كل كلمة فى موضعها الذى وضعت لا تنفر من أختها ، ولا يمكن تغييرها ، وكأن الكلمات فى الأسلوب نجوم السماء وأبراجها ، لا تزايل أماكنها ، ولا تخرج من مواطنها ، ويقول فى ذلك القاضى عياض فى الشفاء :
«الوجه الثانى من إعجاز صورة نظمه العجيب ، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ، ومناهج نظمها ونثرها الذى جاء عليه ، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له ، ولا استطاع أحد مماثلة شىء منه ، بل حارت فيه عقولهم ، وتدلهت دونه أحلامهم ، ولم يهتدوا إلى مثله فى جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر» (٢).
وإن الأسلوب هو الصورة البيانية التى تظهر فى معنى رائع ، وكلام مشرق ، يثير فى النفس أخيلة الحقيقة يصورها ويبينها ، ويحس الإنسان فيها بأطياف المعانى ، كما يحس بأطياف الصورة على حسب تثقيف المصور ، وحسن الاختيار فى ألوان الصور ، فللأساليب ألوان تحسن ، وتنسق ، وتصريف فى أوضاعها كما قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) [الأنعام : ٦٥].
ولقد قال فى هذا المعنى الخطابى (٣) فى رسالة إعجاز القرآن : «وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لجام الألفاظ ، وزمام المعانى ، وبه تنتظم
__________________
(١) هو عبد القاهر الجرجانى توفى توفى سنة ٤٧١.
(٢) الشفاء ج ١ ص ١٧٦.
(٣) أديب لغوى محدث توفى سنة ٣٨٨ ه.