ويذكر الرواة أن القبيلة كانت إذا نبغ فيها شاعر احتفلت به ، وفرحت بنبوغه ، وأتت القبائل فهنأتها بذلك ، وصنعت الأطعمة ، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر ، وتباشروا به لأنه حماية لهم ، ولسانهم الذاب عنهم المدافع عن أعراضهم وأحسابهم وشرفهم بين الناس. وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو فرس تنتج أو شاعر ينبغ فيهم (١).
فالشاعر هو صحيفة القبيلة و (محطة إذاعتها) ، وصوته ، يحط ويرفع ويخلد ، لا سيما إذا كان مؤثرا ، فيرويه الناس جيلا بعد جيل.
وكان أثره في الناس أثر السيف في الحروب ، بل استعمله المحاربون أول سلاح في المعارك. فيبدأ الفارس بالرجز ، ثم يعمد الى السيف أو الرمح أو آلات القتال الأخرى. ولأثره هذا ، جاء في الحديث عن الرسول قوله : «والذي نفسي بيده ، لكأنما تنضحونهم بالنبل بما تقولون لهم من الشعر» (٢) مخاطبا بذلك شعراء المسلمين ، الذين حاربوا الوثنيين بهذا السلاح الفتاك ، سلاح الشعر.
وقد كان الوثنيون قد أشهروه أيضا وحاربوا به المسلمين.
وطالما قام الشعراء بالسفارة والوساطة في النزاع الذي كان يقع بين الملوك والقبائل ، أو بين القبائل أنفسها ، فلما أسر (الحارث بن أبي شمر) الغساني (شأس بن عبدة) في تسعين رجلا من (بني تميم) ، وبلغ ذلك أخاه (علقمة ابن عبدة) ، قصد (الحارث) فمدحه بقصيدته :
طحا بك قلب بالحسان طروب |
|
بعيد الشباب عصر حان مشيب |
فلما بلغ طلبه بالعفو عن أخيه وعن بقية المأسورين ، قال الحارث : نعم وأذنبه ، وأطلق له شأسا أخاه ، وجماعة أسرى بني تميم ، ومن سأل فيه أو عرفه من غيرهم (٣).
__________________
(١) بلوغ الارب ٣ / ٨٤ ، العمدة ، ١ / ٤٩ ، ٦٥ ، المزهر ٣ / ٢٣٦ ، العقد الفريد ٣ / ٩٣.
(٢) الأغاني ١٥ / ٢٦ وط. بيروت ١٦ / ١٦٥.
(٣) العمدة ١ / ٥٧ ، (أسر الحارث بن أبي شمر الغساني مع سبعين رجلا من بني تميم) ، ـ