على کماله وتواضعه للحق ، وواحدة من هذه الأمور التي امتاز بها أرباب العلم والمعرفة والحکمة ، وکبار الفلاسفة ، هي اعترافهم بمحدودية عقل الإنسان وتحديد قدرته في إدراک الحقائق الواقعية على ما عليها في الواقع الثابت ، ومن أبرز هؤلاء الفلاسفة الکبار الشيخ الرئيس ابن سينا ، فهو على ما عنده من قدرة عقلية في بيان وبرهنة الکثير من المسائل ، إلاّ أنه أظهر عجز عقله عن أدراک کل الحقائق الواقعية ، کما ذکرنا بعض کلماته في بداية هذا البحث ، فإن دلّ هذا الأمر على شيء فإنّما يدل على تواضعه من جهة ، وشجاعته من جهة أخرى ، إذ ليس من السهل أن يصرع رجل کهذا نفسه ، وهي ترى ما عندها من المعلوم کثيرة ، وخير شاهد على ذلک کتابه المعروف بالمباحثات التي أظهر فيها عجز العقل عن إدراک جميع الواقعيات ، بل أکّد فيها محدودية العقل في هذا الأمر ، ولم يخل کتابه الکبير المعروف بکتاب الإشارات من الإشارة إلى هذه الحقيقة ، کما بيّن ذلک في النمط التاسع تحت عنوان مقامات العارفين ، من وجود وسيلة أخرى يمکن للإنسان أن يدرک الواقع الخارجي من خلالها ، تعمل خارج حدود العقل ، وهي الوحي الإلهي ، وإخبار الصادق المصدق المعصوم.
ويجب أن يعلم أن الحکم بمحدودية العقل لم يکن خالياً من الدليل النقلي ، ولکن تکمن أهمية هذه المسألة في طبيعة الاعتراف بها من قبل أصحاب المذهب العقلي في البحث والاستدلال ، فإن هذه الأدلة النقلية تلزم العقل بالعمل في ضمن حدوده ومجال معرفته وإدراکه ، فالعقل يحکم بمقدار دائرته ومجاله الممکن إثباتاً ونفياً ، ولا يحق للعقل أن يثبت أو ينفى شيئاً واقعاً في مجال خارج مجاله ودائرة حکمه وإدراکه ، هذا فيما إذا أخذنا العقل بما هو عقل من دون تدخل العامل الخارجي الذي بإمکانه أن يساعده في إدراک ذلک الأمر الواقع في مجال خارج مجاله ؛ لأن العقل بمساعدة هذا العامل الخارجي يستطيع الحکم إيجاباً وسلباً في تحديد مصير ذلک الأمر المفروض ، وهذا العامل الخارجي تارة يکون محدوداً بحدود معينة ، وإن کانت بالنسبة لحدود العقل أوسع ، ولکنها بالنسبة لعامل آخر فهي محدودة ، فقد