الوجهان المذكوران ، فرجع بصره خاسئا وفكره حسيرا ، فاقتصر على مجرّد الأمر والنهي اللّذين لا يعلم غايتهما.
ويمكن أيضا أن يشير بهما إلى قصر العبادة على التوجّه إلى المعبود ؛ فإنّ اللطف والشكر وإن كانا للقرب إليه إلّا أنّ إسقاط الوسائط من البين أقرب.
المذهب الرابع : لبعض المعتزلة ، أنّ الوجه هو ما تضمّن ترك الفعل من المفسدة ، وترك القبيح من المصلحة ؛ وذلك لأنّ ترك العبادات مقرّب إلى المعاصي ومبعّد من الطاعات العقليّة ، ولا نعني بالمفسدة إلّا ذلك. وترك القبيح بالعكس ، وهو معنى المصلحة.
ولمّا كان الترك مستلزما للمفسدة ، وترك المفسدة واجب ، ولا يتمّ إلّا بزوال الترك الحاصل بالفعل أو عند الفعل ، وجب الفعل.
وكذلك نقول : ترك القبيح لطف ، وكلّ لطف واجب ، فيكون الترك واجبا ، فيلزمه تحريم الفعل ؛ لأنّه لا يحصل الترك الواجب عنده ، لتنافيهما.
وهو في الحقيقة ضغث من المذهب الأوّل ، إلّا أنّه لم يجعل نفس فعل الواجب لطفا ، بل به يحصل اللطف ، وفعل القبيح ليس لطفا في القبائح العقليّة (١) ، بل تركه لطف في الواجبات العقليّة.
ولعلّه نظر إلى مذهب الشكر بعين من قبله ، وإلى مذهب الأمر والنهي بعين الهدم ، ورأى غلبة القوى الشهويّة والغضبيّة على نوع الإنسان بحيث لو خلّي وطبعه لجمح به في المهالك باتّباع مقتضى الشهوة والغضب المعبّر عنهما بالحرام والمكروه.
وترك الأفعال الحسنة معدّ لذلك ، ومسلّط عليه ، فجعل تلك الأفعال قيودا له ، لئلّا يرتطم في الهلكات ويقتحم في التبعات ، فكان الغرض الذاتي عنده ترك مقتضى الطبع ، وترك العبادات ينافيه ، فكان الترك منافيا للغرض ، فوجب أو ندب الاشتغال بالفعل المحصّل للترك المذكور.
ولعلّ صاحب هذا الرأي ممّن يرى أنّ المطلوب في النهي إنّما هو إيجاد الضدّ ؛ بناء على
__________________
(١) قال البياضي في شرح هذا الكلام : « الذي أظنّه فيه أنّه وقع من غلط الكتّاب ، فإنّ أصحاب اللطف لم يجعلوا فعل القبيح لطفا ، بل تركه لطفا في ترك الحرام ».