ليت شعري هذا الدليل العقليّ المتسالم عليه لِمَ أهملته الأمّة في استخلاف النبيّ الأعظم واتّهمته بالصفح عنه؟ أنا لا أدري.
ولا يجوز أيضاً توكيل الأمر إلى أفراد الأمّة ، أو إلى أهل الحلّ والعقد منهم لأنّ ممّا أوجبه العقل السليم أن يكون الإمام مكتنفاً بشرائط بعضها من النفسيّات الخفيّة والملكات التي لا يعلمها إلاّ العالم بالسرائر (١) كالعصمة والقداسة الروحيّة ، والنزاهة النفسيّة لتبعده عن الأهواء والشهوات ، والعلم الذي لا يضلّ معه في شيء من الأحكام إلى كثير من الأوصاف التي تقوم بها النفس ، ولا يظهر في الخارج منها إلاّ جزئيّات من المستصعب الحكم باستقرائها على ثبوت كليّاتها : (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) (٢) و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٣).
فالأمّة المنكفئ علمها عن الغيوب لا يمكنها تشخيص من تحلّى بتلك الصفات ، فالغالب على خيرتها الخطأ ، فإذا كان نبيّ كموسى على نبيّنا وآله وعليهالسلام تكون وليدة اختياره من الآلاف المؤلّفة سبعين رجلاً ، وأنّهم لمّا بلغوا الميقات قالوا : أرنا الله جهرة فما ظنّك بأفراد عاديّين واختيارهم؟ وأناس ماديّين وانتخابهم؟ وما عساهم أن ينتخبوا غير أمثالهم ممّن هو وإيّاهم سواسية كأسنان المشط في الحاجة إلى المسدّد؟ وليس من المأمون أن يقع انتخابهم على عائث ، أو يكون التياثهم (٤) بمشاغب ، أو يكون انثيالهم وراء من يسرّ على الأمّة حسواً في ارتغاء (٥) أو يقع
__________________
(١) وقد أشبعنا القول في البرهنة على لزوم هذه الملكات الفاضلة في الإمامة في غير هذا المورد. (المؤلف)
(٢) القصص : ٦٩.
(٣) الأنعام : ١٢٤.
(٤) الالتياث : الاختلاط والالتفاف.
(٥) مثل يضرب لمن يظهر أمراً ويريد غيره. تاج العروس : ١٠ / ١٥٣ [ ومجمع الأمثال : ٣ / ٥٢٥ رقم ٤٦٨٠ ]. (المؤلف)