فإذا كانت الوصية ثابتة في حطام زائل ، فما بالها تنفى في خلافة راشدة ، وشريعة خالدة ، متكفّلة بصلاح النفوس والنواميس والأموال والأحكام والأخلاق والصالح العام والسلام والوئام؟ ومن المسلّم قصور الفهم البشريّ العادي عن غايات تلكم الشؤون فلا منتدح والحالة هذه عن أن يعيّن الرسول الأمين عن ربّه خليفته من بعده ليقتصّ أثره في أمّته.
وقد مرّ في صفحة (١٣٢) رأي عائشة وعبد الله بن عمر ومعاوية وحديث الناس بأنّ راعي إبل أو غنم أو قيّم أرض لأيّ أحد لا يسعهم ترك رعيتهم هملاً ، ورعية الناس أشدّ من رعية الإبل والغنم فالأمّة لما ذا صفحت يوم السقيفة عن هذا الحكم المتسالم عليه بينها؟ ولما ذا نبأت عنه الأسماع ، وخرست الألسُن؟ وذهلت الأحلام عنه يوم ذاك ، ثمّ حدّث به الناس ونبّأته الأمّة؟ ولما ذا ترك النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أمّته سدىً هملاً ، وفتح بذلك أبواب الفتن المضلّة المدلهمّة ، واستحقر أمّته ورأى رعيتها أهون من رعية الإبل والغنم؟ حاشا النبيّ الأعظم عن هذه الأوهام ، فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وصّى واستخلف ونصّ على خليفته وبلّغ أُمّته غير أنّه عهد إلى وصيّه من بعده : إنّ الأمّة ستغدر به بعده كما ورد في الصحيح (١). وقال له أيضاً : «أما إنّك ستلقى بعدي جهداً» ، قال عليّ : «في سلامة من ديني» ، قال : «في سلامة من دينك» (٢). وقال لعلي : «ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها إلاّ من بعدي» (٣). وقال له : «يا عليّ إنّك ستبتلى
__________________
(١) مستدرك الحاكم : ٣ / ١٤٠ ، ١٤٢ [ ٣ / ١٥٠ ح ٤٦٧٦ ، و ١٥٣ ح ٤٦٨٦ ] ، وصحّحهُ هو والذهبي في تلخيصه ، تاريخ الخطيب : ١١ / ٢١٦ [ رقم ٥٩٢٨ ] ، تاريخ ابن كثير : ٦ / ٢١٩ [ ٦ / ٢٤٤ ] ، كنز العمّال : ٦ / ١٥٧ [ ١١ / ٦١٧ ح ٣٢٩٩٧ ]. (المؤلف)
(٢) مستدرك الحاكم : ٣ / ١٤٠ [ ٣ / ١٥١ ح ٤٦٧٧ ] وصحّحهُ هو وأقرّه الذهبي. (المؤلف)
(٣) أخرجه ابن عساكر [ في ترجمة الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ـ الطبعة المحققه : رقم ٨٣٤ ـ ٨٣٧ ] ، والمحبّ الطبري في الرياض : ٢ / ٢١٠ [ ٣ / ١٦٢ ] نقلاً عن أحمد في المناقب ، والحافظ الكنجي في الكفاية : ص ١٤٢ [ ص ٢٧٣ باب ٦٦ ] ، والخوارزمي في المقتل : ١ / ٣٦. (المؤلف)