قدومه من مسكنه بالسُّنح (١).
وهذا الاستدلال أقرّه الحلبي في سيرته (٢) (٣ / ٣٥) وقال : لمّا توفّي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم طاشت العقول ؛ فمنهم من خبَل ، ومنهم من أقعد ولم يطق القيام ، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام ، ومنهم من أضنى ، وكان عمر رضى الله عنه ممّن خبل ، وكان عثمان رضى الله عنه ممّن أخرس ، فكان لا يستطيع أن يتكلّم ، وكان عليّ رضى الله عنه ممّن أقعد فلم يستطع أن يتحرّك ، وأضنى عبد الله بن أنيس فمات كمداً ، وكان أثبتهم أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه. إلى أن قال : قال القرطبي : وهذا أدلّ دليل على كمال شجاعة الصدّيق. إلى آخره.
قال الأميني : يوهم القرطبي أنّ في كتاب الله العزيز ما يدلّ على شجاعة الخليفة وعلمه ، وليس فيما جاء به أكثر من أنّه استدلّ بالآية الشريفة يوم ذاك على موت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأيّ صلة لها بشجاعة الرجل؟! وأيّ قسم فيها من أنحاء الدلالة الثلاثة فضلاً عن أن تكون أدلّ دليل؟ فإن يكن هناك شيء من الدلالة ـ وأين وأنّى ـ فهو في ثبات جأشه وتمسّكه بالآية الكريمة لا في الآية نفسها.
ثمّ كيف خفي على الرجل وعلى من تبعه الفرق بين ملكتي الشجاعة والقسوة؟ وأنّ هذا النسج الذي أوهن من بيت العنكبوت إنّما نسجته يد السياسة لدفع مشكلات هناك ، فخبّلوا عمر بن الخطّاب ـ وحاشاه الخبل ـ تصحيحاً لإنكاره موت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنّه كان من ذلك لقلق كما مرّ في (ص ١٨٤) ، وأقعدوا عليّا لإيهام العذر في تخلّفه عن البيعة ، وأخرسوا عثمان لأنّه لم ينبس في ذلك الموقف ببنت شفة.
على أنّ ما جاء به القرطبي من ميزان الشجاعة يستلزم كون الخليفة أشجع من
__________________
(١) بضمّ أوّله وسكون النون وقد تضم : موضع خارج المدينة بينها وبين منزل النبيّ ميل [ في معجم البلدان : ٣ / ٢٦٥ أنها إحدى محالّ المدينة ]. (المؤلف)
(٢) السيرة الحلبية : ٣ / ٣٥٤.