من كل جوانبها ، وضيّق الحصار عليها سبعين يوما جمادى الأول والآخرة وعشرا من رجب سنة ٤٤٨ ، ونصب المجانيق والعرادات وعظم الحشد إلى تلك البقعة ، حتى كان يخيل للسّامع أن الأرض ترتج وتضطرب ، عند ضرب الجباجب والطّبول ، ونفخ النفاطات (١) والأبواق ، فثبت أصحاب الفاضل ثباتا يدهش اللّب ، وبرهنوا على بسالة وصبر قل أن يتحمّلها إنسان مهما بلغت حماسته ، وعاهدوا الشريف الفاضل على الموت ، وواثقوه على ان لا يخرج من الباب احد أو يهلك دون ذلك ، كلا هذا ومورد ألما بعيد عنهم ، وليس معهم منه إلّا ما كانوا قد احتجنوه واحرزوه ، ولطول المدة نفذ ما معهم من الماء وبلغ الحال إلى أن تقاسموا الماء بالعطبة (٢) ، وطلب رجل شربة ماء على ان يبذل فيها ما يملك ، وكان ما له لا يقل عن ألف دينار ، فلم يجد ، وبذلت إمرأة مائة وعشرين دينارا عوض شربة ماء فلم تجد ذلك ، وكانوا يضعون الدروع الحديدية على صدورهم يتلذّذون ببرد الحديد ، وماتت البهائم والخيل من العطش ، حتى امتلأت حيطان الهرابة بجثثها المنتنة ، وقد كانت السماء تمطر في آنات متباعدة فيتهافتون على الماء يغترفونه ، من بين جثث الموتى ، وجيف الحيوانات ، وربما عثروا على الماء بعد يومين أو ثلاثة في الحفر التي قد أمتلأت بالأشلاء المنتنة ونحوها ، فيأخذون ما يظفرون ، وقد امتزج بالصديد ، وأصبح أسود كأنه القطران ، فيعمدون إلى طبخه بالنّار ثم إلقاء التراب الأبيض عليه ليغير من لونه ، ثم يسدّون أنوفهم ويشربون فلا يكاد يمرّ من الحلق حتى يتقاياه الشارب ويكاد يهلك وربما هلك.
هذا كله والماء غير ممنوع عنهم ، ولا يصدّهم صاد عن وروده والأمان سائد لمن يريد الورود ، ولكن العهد والميثاق الغليظ حال بينهم وبين الخروج من الأبواب وتعديها ، وقد هلكت النساء والصبيان والبهائم في سبيل المحافظة
__________________
(١) اداة من النحاس يرمى بها النفط.
(٢) العطبة : القطعة الصغيرة من القطن.