قصدت منزل المسافرين الإفرنجي المسمى أوتيل دي روب في أكبر بطحاء البلاد بعد مشقة في التخلص من النزول عند وكيل تونس الذي لا داعي إليه سوى تحميله الكلفة بالضيف والمصروف عليه مع تكليفي بلزوم مراعاة أحواله وعاداته مما عساه لا يوافق حالتي وعاداتي إذ لم تكن لي معرفة به قط مع ما أنا عليه من المرض الملازم الذي اشتد منذ رجوعي إلى تونس بسبب الإنفعالات النفسانية فيلزمني المساعدة لمزاجي في الأكل والنوم وغير ذلك مما يحمل مضيفي مشقات أو يضر بي تركه ، فاكتريت في ذلك المنزل بيتا واسترحت به على ما ساعدني واغتسلت في حمامه وأكلت ونمت ، ثم اكتريت عجلة وقصدت أخي في الله الصفوة الخيرية عالي الأخلاق والأعراق سيدي إبراهيم السنوسي الحسيني (١) وهو المحدث البليغ المتفنن في علوم المنقول والمعقول والسياسة صاحب الأخلاق المطابقة لانتسابه العالي ، نشأ من بيته الأصيل بمدينة فاس البيضاء قاعدة مملكة المغرب ، وحصل من العلوم ما استكمل به فخره ، ثم رحل إلى تونس وأقام بها بضع سنين وامتزجت به أفاضلها أو أعيانها متأنسين بعلمه وأدبه ، وكاد أن يتخذها قرارا لولا المحنة التي وقعت بها من سنة ١٢٨٠ ه إلى سنة ١٢٨٦ ه فارتحل عنها على ما دعت إليه مقتضيات الأحوال من فساد الحكومة واستقر بالإسكندرية مشتملا على كماله وفضله وعفافه واتسعت نعم الله عليه لا زال أهلا لكل فضيلة ، فلاقيته في الطريق وألزمني بالإستقرار في مقره وحيث كانت الأسباب المشار إليها آنفا في التخلص من الضيافة مفقودة مع أخي الفاضل المومى إليه لا من جهتي ولا جهته ساعفت مراده وأقمت عنده سبعة أيام ، ولاقيت أيضا أخي في الله التقي النقي الكامل رستم باشا التونسي وهو الفاضل العفيف النصوح المؤتمن ، نشأ في بلاد الجراكسة من جبال القوقاس ووفد على تونس دون سن العشر فأدخل إلى مكتب الحرب وحصل على القرآن العظيم ونصيب كاف من العقائد والعبادات والتجويد والنحو والحساب والهندسة وغيرها من الفنون الرياضية والحربية ، مع تحصيل اللغة الفرنساوية ومعرفة اللغة التركية وثافن علم التصوف ، ثم تقلد الوظائف السامية في حكومة تونس فولي أميرلوا حراسة الأمير ، ثم مستشار الداخلية ثم وزيرا فيها وعضوا في المجلس الخاص والمجلس الأكبر ، وكان من أشد المحامين عن العدل والشورى ، ولما وقعت النكبة العامة لتونس سنة ١٢٨٠ ه وما نشأ عليها من المظالم سافر المشار إليه إلى أوروبا ثم رجع إلى تونس سنة ١٢٨٦ ه باستدعاء الحكومة وقلد وزارة الحرب مع توظفه في كل من المدتين بولايته عاملا على أعمال نبيهة كجربة والأعراض وغيرها ، وسافر مرارا أميرا على المعسكرات لإقرار الراحة والأمن في الولاية وفي كل ما تقلد به كان مستقيم السيرة والسريرة مثنى عليه بالسن الخاص والعام ، ولما ابتدأت النكبة الكبرى الأخيرة لتونس ورأى مباديها ترخص من الوالي السفر للتداوي فأقام في أوروبا مدّة ثم أقام بالإسكندرية فلاقيته بها في إحدى المنازه
__________________
(١) هو إبراهيم بن إدريس السنوسي ، الفاسي الحسني المالكي. ولد بفاس وتوفي بالقاهرة سنة (١٣٠٤ ه). هدية العارفين ١ / ٤٤ ومعجم المؤلفين ١ / ١١.