الهندسة ، إذ هذا الجبل واقع في الحد بين فرنسا وإيطاليا فناحيته الشرقية الجنوبية إلى إيطاليا والشمالية الغربية إلى فرنسا ، ولما أرادوا وصل الطرق الحديدية اتفقوا على خرق الجبل فجعلت عملة كل من الجنسين تشتغل من جهتهم وبعد الإشتغال بضع سنين اتصل العاملون بعضهم ببعض على خط مستقيم ، والحال أن طوله تسعة أميال تقريبا وتنور فيه فوانيس ليلا ونهارا ويقيم به حراس لتفقد الطريق ولهم مساكن منحوتة وأماكن وسيعة لوضع الضروريات التي يحتاج إليها إصلاح الطريق ومراكز لسلك الكهربا والرتل لا يدخل إلا إذا رأى علامة الحارس بالإذن بالدخول ، وبينما كنا سائرين فيه وإذا برتل آخر مقبلا من فرنسا ذاهب إلى إيطاليا فمرا متعاكسين متحاذيين مع اشتداد دوي العجلات والصدى والظلمة وسرعة السير فكان منظرا هائلا واشتد البرد هناك اشتدادا خارقا للعادة حتى أن بخار النفس كان يجمد على شاربي وزجاج طواقي المخدع كان ينجمد عليه بخارنا إلى أن يمنع الضوء وينكسر بالتكسير قطعا كالجليد وأيقظتني شدة البرد من النوم مع التردي بالثياب الثخينة الصوفية وأحدها مستبطن بجلد الفراء العالي ، وفي المخدع قنوات من النحاس ملآنة بالماء الحار جدا ملفوفة في خرق من الصوف وعندما وصلنا إلى بلد «مودان» أول موقف الرتل من جهة فرنسا نزلنا للإنتقال للرتل الفرنساوي وابتدأ الأمر فيما شاهدته بفرنسا.
فلنعد الآن لبقية الكلام على إيطاليا ، فإني عدت إليها سنة ١٢٩٨ ه سنة ١٨٨١ م وزدت معرفة بالبلدان التي ستذكر وهي : ابرندزي ، التي هي أكبر المراسي جهة شرقي إيطاليا ولها مأمن حسن وحصون وبقية البلد ليست إلا قرية محتوية على لوازم أهلها ، وأقمت بها ليلة ثم توجهت إلى «باري» وهي مرسى أيضا دون الأولى ولكنها أكبر منها بلادا وأحسن حضارة سيما الأبنية الجديدة التي لها إتقان في انتظام الطرق وسعتها وأقمت بها ليلة ثم توجهت إلى بولونيا وقد مر ذكرها ، وجميع ما مررنا عليه كان في غاية العمران والإنتظام في الزراعة وكثرة الشجر من الزيتون المعمر لجميع تلك الأرض مع بعض غلال أخرى شتى ، وجميعها يسقى بالنواعير من الآبار بإدارة الدواب حميرا وخيلا وبغالا وكذلك القرى كانت كثيرة منتشرة وحيث كان مرورنا وقت الحصاد صيفا كنا نرى جميع الجهات مشتغلا أهلها فبعضهم يحصد الزرع حتى الذي تحت أشجار الزيتون ، وآخرون يتبعونهم بسقي الأرض وفي أثرهم آخرون يثيرون بالحرث ما جف من الأرض وهكذا بحيث لا تبقى الأرض مدة بوارا ، ويزرعون في بعض الجهات إذ ذاك بقولا بحيث يصح أن يقال إن الجهة الشرقية من إيطاليا أعمر من الغربية.
وبعد إقامتي ليلة في «بولونيا» توجهت إلى قرية «منتكاتيني» التي بها مياه معدنية عليها حمامات تهرع إليها الأهالي صيفا لنفع المياه وفيها شيء من التحسين ، غير أنها شديدة الحر لاكتنافها بالجبال المغمورة بالقرى والأشجار ذات الغلال الصيفية ، والحاصل أن الجهات البعيدة عن البحر صيفا في أوروبا هي مساوية أو أشد حرا من شمال أفريقية ، ويشتد تعب الراكب في الرتل من الحر لأنه إن فتح الطواقي إسود لونه وربما أوذيت عيناه من الدخان