القرآن من نبينا سيدنا محمد عليه الصلاة الذي ثبتت نبوته وصدقه بالمعجزات المتكاثرة ، فإخباره لا شك في صدقه ويوافقنا على ذلك النقل المتواتر من أمة بني إسرائيل منذ حصول الحادثة ممن شاهدها منهم ، وهم أمة عديدة يستحيل تواطؤهم على الكذب إلى من بعدهم منهم ومن غيرهم نقلا عنهم جيلا بعد جيل على تلك الصفة إلى الآن ، وعدم ذكر الواقعة في تواريخ علماء ذلك العصر لا ينفي وقوعها لأن السكوت عن الشيء ليس بنفي له ، وهناك حامل على عدم الذكر لأن المؤرخ إنما يكون من علمائهم الذين هم أشد مضادة للديانة ، وإذا شاهدوا شيئا مثل ذلك ولم يجدوا وجها للقدح فيه وتخريجه على ما يلائم منهجهم يسكتون عنه على أنه مندمج في زمرة ما نسبوه إلى أعمال القادحين فيه التي ينسبونها إلى نوع من الباطل عنادا أو جهلا والعياذ بالله ، وإني لا أعجب من إنكار ذلك من غير ذوي الديانات من أهل العصر وإنما أعجب من إنكار النصارى واليهود الآن معجزة لنبينا محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهي انشقاق القمر مستدلين على إنكارهم بمثل ما استدل عليهم في إنكار واقعة الغرق من عدم ذكرها في التواريخ ، مع أنهم يجيبون بمثل ما تقدم ونحن نقول : إن معجزة إنشقاق القمر ثبوتها أبين وأمرها أوضح ، وذلك أنها وقعت ليلا بعد مضي حصة منه لأن القمر كان ليلة البدر أي الرابعة عشر وهو في كبد السما كما تشير إليه روايات البخاري : «من أن نصفه بقي ظاهرا فوق الجبل ونصفه غاب وراءه (١) ، والروايات وإن اختلف لفظها فهذا مدار معناها ، ثم أن الحصة في انشقاقه لم تطل وعاد لما كان عليه ، ولا ريب أن حوادث السماء لا يشتغل بها العموم دائما إلا إذا حدث العلم من قبل بها فتلتفت إليها الأنظار أو تقع بحسب الصدفة سيما الأمر الذي لا يطول زمانه ، مثل بعض الشهب المؤثرة للضوء القوي أو غيرها مما لا يطلع عليه إلا أفراد صدفة ، ولا يعلم بخبره في جميع الجهات والآفاق وإن ذكره بعض الناس ، فلا يثبت عند علمائهم المؤرخين لعدم تيقنه عندهم ، لعدم ثقتهم بأخبار الأفراد القليلين فلا يكون سكوتهم دليلا على عدم الوجود ، على أن وراء ذلك ما هو أوضح ، وهو أن الممالك المتمدنة إذ ذاك الحاوية للعلماء المؤرخين الذين يمكن لهم رؤية القمر عند استقامته في كبد السماء في مكة المكرمة إنما هم سكان ما بين شطوط المغرب إلى مبادىء جبال هملاي ، أما أهالي أوروبا فلم يكونوا إذ ذاك من أهل المعارف والتدوين سوى جهاتها الجنوبية من بقايا الرومان ، وأما الصين وشمال آسيا الشرقية فلا يرون القمر إذ ذاك لغروبه عندهم أو قرب غروبه في ضوء النهار ، فهم وإن كانوا إذ ذاك متمدنين وعلماء لكن ذلك غير مرئي لديهم ، ثم أن الممالك المذكورة التي يمكن لهم رؤية القمر إذ ذاك هم في أنفسهم مختلفون في الوقت ، فيكون الوقت إذ ذاك عند
__________________
ـ بالملوك الخالية في الأزمنة الماضية والبلدان النائية.
والخبر إذا بلغ حد التواتر يعلم مضمونه قطعا من غير ملاحظة لصدق الخبر ولا معرفة ببلوغه حد التواتر بالفعل فضلا عن استحصال ذلك العلم منهما.
(١) الحديث في صحيح البخاري برقم (٣٨٦٩).