حسين أمير مكة قدس ثراه وهو رحمهالله حسن الأخلاق متواضع عفيف جدير بمنصبه السامي ، ولاقينا بعضا من أعيان البلاد كالنحرير البارع أحمد المشاط وغيره.
ولما آن وقت التوجه إلى منى ابتدأ المطوف ووكيل تونس في تهويل أمر الذهاب إليها وإلى عرفات وأكبرا في ذلك ما شاءا حتى ظننت أنها مسافة سفر وأن الحرب ثائرة في الطريق ، فوجهت رحلي على الجمال واكتريت أحمرة لركوبي وركوب من معي مدة أيام الحج ، وبينما نحن سائرون والطريق في غاية الراحة والأمن والعمران وإذا نحن بقرية سألت عنها فقيل لي هي منى! فبقيت متعجبا من قول أولئك المرشدين إذ لم تكن تبعد عن مكة إلا أربعة أميال ، ولكني عرفت السبب في عملهم تجاوز الله عن الجميع ، وأقمت ليلة بمنى ثم توجهنا صبحية اليوم الثامن إلى عرفات لوقوع الشك في ثبوت الشهر وأقمنا فيه إلى ليلة العاشر من الشهر وبعد الوقوف وأخذ حصة من الليل أفضنا من عرفات بعد أن أدينا ما نسأل الله قبوله وكان موقفا تقشعر منه الجلود من خشية الله لالتجاء عباده إليه حسبما أمرهم ، وكانت الأرض تموج بالخلائق ضارعين لباريهم جل وعلا تقبل الله من الجميع ، وعند الإفاضة اتفقت مع الحمّار ومع الرفقاء على التأخر عن الإزدحام وأخذ الطريق الأقل ازدحاما وكان دليلنا مضمرا خلاف ذلك ، لأنهم إنما يرون من شعائر الحج الظواهر وهم عن حقائق المشروعات غافلون فيرغبون في اللكام والزحام والخصام لتبقى لهم وقائع يتحدثون بها سنتهم ، فلما أفضنا كانوا يسرعون السير ومن عادة حميرهم أن لا ينقاد إلى راكبه بل إلى سائقه فقط ولو انقطع اللجام من فيه ، فأدخلونا كرها في وسط الزحام ولم يبق منا واحد يسمع صوت صاحبه لثوران عجيج الصياح والرغاء والنهيق ، فمن حاد يحدو ومن داع يدعو ومن مصرخ ينادي رفيقه ومن صايحة مستجيرة بالمارة من سقوطها ، ومن آن يئن من كسره بسقوطه ومن باك متذكر هول المطلع ومن بعير يرغو لسقوط حمله وحمار ينهق لرؤية أتان ، وأناس ملقاة وآخرون يجرون وآخرون يزدحمون وآخرون واقفون والظلام مرخ سدوله ، والناس لا يذكر بعضهم بعضا كل طالب النجاة لنفسه ، فرأيت أنموذجا لهول يوم الفزع الأكبر وما أيقنت بالنجاة لنفسي حتى دهمني بعض شقادف الجمال فأسقطني عن حماري وخرجت من بين أرجل الحيوانات متطلبا النجاة ذات اليمين حتى يسر الله لي الخروج عن الطريق بالصعود إلى محجر مرتفع فجلست هناك حامدا لله على النجاة ، وبعد هنيهة لحق بي بعض أصحابي وجاءني الدليل حاثا على الذهاب وإلا تكن في خطر من البدو ، فقلت له : يا أيها الرجل إن الله حرم في هذا الموطن الجدال ، ولكن ما عليك من الإنذار فقد أديته وأنا في نفسي أفعل أخف الضررين ، لأن البدو لا يفعلون أكثر من القتل وهو الذي تدعوني إليه لأن أفعله بنفسي ، على أنهم يقتنعون بأخذ السلب ودونه الدفاع ما استطعت ، ووراء هذا كله أنه لا وجود لشيء مما تهول به ، وهؤلاء الخلائق في الطريق وعند آخرهم أتوجه فدعني