الحازم النصوح محمد الطاهر الزاوش الذي هو من خيار الأهالي وترقى بنصحه لدى الأمير ولي العهد بتونس ، إلى أن ولى مستشاره وأبدى من النصح والنجابة في أسفاره مع مخدومه لسياسة القبائل والعربان ما أقر له به المنصفون ، وله دراية جيدة بأخلاق الأهالي وله نصح ووفاء عظيم مع الأمير وسائر النصحاء ، وكذلك قدم من أبناء الوطن الوزير حسين والعلامة سالم أبو حاجب وقد تقدمت ترجمتهما. واجتمعت بوحيد دهره الناصح للأمة الباذل في الإخلاص إليها نفسه حتى مات شهيدا ألا وهو مدحت باشا الذي ولي صدارة الدولة العثمانية وأنفذ بمساعيه القانون الأساسي الذي لو جرى به العمل حقيقة لنجت الدولة مما ألم بها ، لكن لما كان الحق صعب الإجراء إلا على من وفقه الله قد عزل ذلك الوزير الوحيد من الصدارة قبل استقرار العمل بالقانون ، ثم نفي إلى خارج الممالك العثمانية ثم أذن له بالإقامة في جزيرة «كريد» ثم ولي واليا على الشام ثم نقل واليا على «أزمير» ثم قبض عليه وحكم عليه بالقتل بدعوى اشتراكه في خلع السلطان عبد العزيز (١) وقتله ، لكن أكثر دول أوروبا أنكرت الحكم سرا لعدم جريانه بالحق الصراح فعرض عن القتل بالسجن المؤبد في الطائف من الحجاز ، ثم أشيعت وفاته شهيدا للحق رحمهالله ونعمه. وكذلك اجتمعت بذي الأصالة داود باشا المصري حفيد محمد علي باشا للبنت وصهر الخديوي الحالي ، وكذلك بسفير الفرس بباريس نازار أغا وغيرهم من أعيان الأقطار في الاجتماعات الخصوصية زيادة على الاجتماعات العامة في المآدب التي أشرنا إليها من دولة فرنسا ، فقد دعيت مدة إقامتي هناك تلك السنة لمأدبة في وزارة البحر ، وأخرى في وزارة الخارجية ، وأخرى في وزارة المال ، وكل منها كان خارج المحل وداخله على غاية من التنوير والتزيين وجنائنه ملونة الأنوار الأرضية والفوقية كألوان أزهاره ، وموائد المآكل والمشروبات والمثلجات مصفوفة والموسيقات عازفة والأعيان من النسوة والرجال يرقصون أو يتفرجون في الملهى المشخص للمطربات ، وصاحب الوزارة المدعو إليها الضيوف يقف في البيت الثاني من المدخل هو وامرأته ويسلمون على الداخل ويتلقونه ثم يكون الداخل على حسب إرادته ولا يلزمه الوداع عند الرواح ، ويرى الإنسان آلافا من المدعوين بأفخر لباسهم وذوي النياشين متقلدين بها ورئيس الجمهورية يؤانس البعض ونساءهم يتهن بدلالهن ولباسهن وحليهن ، فإن منهن من تلبس الشفوف المطرز باللؤلؤ النفيس من صدرها إلى ذيلها عدا حليها المكللة بالياقوت الملون ، ولا يكلم بعضهم بعضا في هاته المواكب إلا من كان له معرفة بالآخر أو عرفه معرف.
نعم إنهم يتهيئون إلى أدنى مناسبة للتعرف بالغريب ويؤانسونه وربما اضطرت المرأة
__________________
(١) هو السلطان الغازي عبد العزيز خان بن محمود خان الثاني (١٢٤٥ ـ ١٢٩٣ ه) جلس على تخت الخلافة الإسلامية في ١٨ ذي الحجة سنة ١٢٧٧ وفي حكمه كان ابتداء فتح خليج السويس سنة (١٢٨٦) تابع تنظيمات أخيه عبد المجيد وعلى أيامه انسلخت رومانيا والصرب والبلغار ومصر عن الإمبراطورية العثمانية. انظر «تحفة الأنام مختصر تاريخ الإسلام» للفاخوري ص ٢٠٧ رقم الترجمة ٣٢.