أفارقك ، فلا أراك ولا ترانى ، ولا أجد منك خلفا ، ثم لعلى أحتاج إلى سؤال الناس عما ينفعنى بعدك فلا أجد فيهم مثلك ، فقال له معاذ : كلا ، إن صالحاء المسلمين والحمد لله كثير ، ولن يضيع الله أهل هذا الدين ، ثم قال له : خذ عنى ما آمرك به ، كن من الصائمين بالنهار ، ومن المصلين فى جوف الليل ، ومن المستغفرين بالأسحار ، ومن الذاكرين الله كثيرا على كل حال ، ولا تشرب الخمر ، ولا تزنى ، ولا تعق والديك ، ولا تأكل مال اليتيم ولا تفر من الزحف ، ولا تأكل الربا ، ولا تدع الصلاة المكتوبة ، ولا تضيع الزكاة المفروضة ، وصل رحمك ، وكن بالمؤمنين رحيما ، ولا تظلم مسلما ، وحج واعتمر ، وجاهد ، ثم أنا لك زعيم بالجنة.
ولما حضر معاذا الموت قال لجاريته : ويحك ، انظرى ، هل أصبحنا؟ فنظرت ، فقالت : لا ، ثم تركها ساعة ، ثم قال لها : انظرى ، فنظرت فقالت : نعم ، فقال : أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار ، ثم قال : مرحبا بالموت ، مرحبا بزائر جاء على فاقة لا أفلح من ندم ، اللهم إنك تعلم أنى لم أكن أحب البقاء فى الدنيا لجرى الأنهار ، ولا لغرس الأشجار ، ولكننى كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل ، وطول الساعات فى النهار ، ولظمأ الهواجر ، فى الحر الشديد ، ولمزاحمة العلماء بالركب فى حلق الذكر.
فلما اقترب أمره جاء عبد الله بن الديلمى ، فقال له : يرحمك الله يا معاذ ، لعلنا لا نلتقى نحن ولا أنت أبدا ، فقال معاذ : أجلسونى ، فأجلسوه ، وجلس رجل خلف ظهره ، ووضع معاذ ظهره فى صدر الرجل ، ثم قال : بئس ساعة الكذب هذه ، حدثني رسول الله صلىاللهعليهوسلم حديثا ، فكنت أكتمكموه مخافة أن تتكلوا ، فأما الآن فإنى لا أكتمكموه ، سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : إنه لا يموت عبد من عباد الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من القبور ، ويؤمن بالرسل وما جاءت به أنه حق ، ويؤمن بالجنة والنار ، إلا أدخله الله الجنة وحرمه على النار.
ثم مات معاذ من ساعته يرحمهالله ، واستخلف عمرو بن العاص ، فصلى عليه عمرو ، ودخل قبره ، فوضعه فى لحده ، ودخل معه رجال من المسلمين ، فلما خرج عمرو من قبره ، قال : رحمك الله يا معاذ ، فقد كنت ما علمناك من نصحاء المسلمين ومن خيارهم ، وكنت مؤدبا للجاهل ، شديدا على الفاجر ، رحيما بالمؤمنين ، وايم الله لا يستخلف من بعدك مثلك ، عمرو بن العاص.