والتّأذين : رفع الصّوت بالكلام رفعا يسمع البعيد بقدر الإمكان وهو مشتقّ من الأذن ـ بضمّ الهمزة ـ جارحة السمع المعروفة ، وهذا التّأذين إخبار باللّعن وهو الإبعاد عن الخير ، أي إعلام بأنّ أهل النّار مبعدون عن رحمة الله ، زيادة في التّأييس لهم ، أو دعاء عليهم بزيادة البعد عن الرّحمة ، بتضعيف العذاب أو تحقيق الخلود ، ووقوع هذا التأذين عقب المحاورة يعلم منه أنّ المراد بالظّالمين ، وما تبعه من الصّفات والأفعال ، هم أصحاب النّار ، والمقصود من تلك الصّفات تفظيع حالهم ، والنّداء على خبث نفوسهم ، وفساد معتقدهم.
وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وقنبل عن ابن كثير : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) ـ بتخفيف نون (أن) ـ على أنّها تفسيريّة لفعل (أذّن) ورفع (لعنة) على الابتداء والجملة تفسيرية ، وقرأه الباقون ـ بتشديد النّون وبنصب (لعنة) على (أنّ) الجملة مفعول (أذّن) لتضمنه معنى القول ، والتّقدير : قائلا أنّ لعنة الله على الظّالمين.
والتّعبير عنهم بالظّالمين تعريف لهم بوصف جرى مجرى اللّقب تعرف به جماعتهم ، كما يقال : المؤمنين ، لأهل الإسلام ، فلا ينافي أنّهم حين وصفوا به لم يكونوا ظالمين ، لأنّهم قد علّموا بطلان الشّرك حقّ العلم وشأن اسم الفاعل أن يكون حقيقة في الحال مجازا في الاستقبال ، ولا يكون للماضي ، وأمّا إجراء الصّلة عليهم بالفعلين المضارعين في قوله : (يَصُدُّونَ) وقوله : (وَيَبْغُونَها) وشأن المضارع الدّلالة على حدث حاصل في زمن الحال ، وهم في زمن التّأذين لم يكونوا متّصفين بالصدّ عن سبيل الله ، ولا ببغي عوج السّبيل ، فذلك لقصد ما يفيده المضارع من تكرّر حصول الفعل تبعا لمعنى التّجدّد ، والمعنى وصفهم بتكرّر ذلك منهم في الزّمن الماضي ، وهو معنى قول علماء المعاني استحضار الحالة ، كقوله تعالى في الحكاية عن نوح : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨] مع أنّ زمن صنع الفلك مضى ، وإنّما قصد استحضار حالة التّجدّد ، وكذلك وصفهم باسم الفاعل في قوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) فإن حقه الدلالة على زمن الحال ، وقد استعمل هنا في الماضي : أي كافرون بالآخرة فيما مضى من حياتهم الدّنيا ، وكلّ ذلك اعتماد على قرينة حال السّامعين المانعة من إرادة المعنى الحقيقي من صيغة المضارع وصيغة اسم الفاعل ، إذ قد علم كلّ سامع أنّ المقصودين صاروا غير متلبّسين بتلك الأحداث في وقت التّأذين ، بل تلبّسوا بنقائضها ، فإنّهم حينئذ قد علموا الحقّ وشاهدوه كما دلّ عليه قولهم : (نَعَمْ). وإنّما عرّفوا بتلك الأحوال الماضية لأنّ النّفوس البشريّة تعرّف بالأحوال التي كانت متلبسة