بها في مدّة الحياة الأولى. فبالموت تنتهي أحوال الإنسان فيستقر اتّصاف نفسه بما عاشت عليه ، وفي الحديث : «يبعث كلّ عبد على ما مات عليه» رواه مسلم ، ويجوز أن تكون هذه اللّعنة كانت الملائكة يلعنونهم بها في الدّنيا. فجهروا بها في الآخرة ، لأنّها صارت كالشّعار للكفرة ينادون بها ، وهذا كما جاء في الحديث : «يؤتى بالمؤذّنين يوم القيامة يصرخون بالأذان» مع أنّ في ألفاظ الأذان ما لا يقصد معناه يومئذ وهو : «حيّ على الصّلاة حيّ على الفلاح». وفي حكاية ذلك هنا إعلام لأصحاب هذه الصّفات في الدّنيا بأنّهم محقوقون بلعنة الله تعالى.
والمراد بالظّالمين : المشركون ، وبالصدّ عن سبيل الله : إمّا تعرّض المشركين للراغبين في الإسلام بالأذى والصّرف عن الدّخول في الدّين بوجوه مختلفة ، وسبيل الله ما به الوصول إلى مرضاته وهو الإسلام ، فيكون الصدّ مرادا به المتعدي إلى المفعول. وإما إعراضهم عن سماع دعوة الإسلام وسماع القرآن ، فيكون الصدّ مرادا به القاصر ، الذي قيل : إنّ مضارعه بكسر الصّاد ، أو إن حق مضارعه كسر الصّاد ، إذ قيل لم يسمع مكسور الصّاد ، وإن كان القياس كسر الصّاد في اللّازم وضمها في المتعدي.
والضّمير المؤنّث في قوله : (وَيَبْغُونَها) عائد إلى (سَبِيلِ اللهِ). لأنّ السّبيل يذكّر ويؤنّث قال تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨] وقال : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) [الأعراف : ١٤٦].
والعوج : ضدّ الاستقامة ، وهو بفتح العين في الأجسام : وبكسر العين في المعاني. وأصله أن يجوز فيه الفتح والكسر. ولكن الاستعمال خصّص الحقيقة بأحد الوجهين والمجاز بالوجه الآخر ، وذلك من محاسن الاستعمال ، فالإخبار عن السبيل ـ (عوج) إخبار بالمصدر للمبالغة ، أي ويرومون ويحاولون إظهار هذه السّبيل عوجاء ، أي يختلقون لها نقائص يموّهونها على النّاس تنفيرا عن الإسلام كقولهم : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٧ ، ٨] ، وتقدّم تفسيره عند قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً) في سورة آل عمران [٩٩].
وورد وصفهم بالكفر بطريق الجملة الاسميّة في قوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) للدّلالة على ثبات الكفر فيهم وتمكّنه منهم ، لأنّ الكفر من الاعتقادات العقليّة التي لا يناسبها التّكرّر ، فلذلك خولف بينه وبين وصفهم بالصدّ عن سبيل الله وبغي إظهار العوج