لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) في سورة البقرة [١١] ، وبيّنّا هنالك أصول الفساد وحقائق الإصلاح ، ومر هنالك القول في حذف مفعول (تُفْسِدُوا) ممّا هو نظير ما هنا.
و (الْأَرْضِ) هنا هي الجسم الكروي المعبّر عنه بالدّنيا.
والإفساد في كلّ جزء من الأرض هو إفساد لمجموع الأرض ، وقد يكون بعض الإفساد مؤدّيا إلى صلاح أعظم ممّا جرّه الإفساد من المضرّة ، فيترجّح الإفساد إذا لم يمكن تحصيل صلاح ضروري إلّا به ، فقد قطع رسول الله صلىاللهعليهوسلم نخل بني النضير ، ونهى أبو بكررضياللهعنه عن قطع شجر العدوّ ، لاختلاف الأحوال.
والبعدية في قوله : (بَعْدَ إِصْلاحِها) بعدية حقيقية ، لأنّ الأرض خلقت من أوّل أمرها على صلاح قال الله تعالى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) [فصلت : ١٠] على نظام صالح بما تحتوي عليه ، وبخاصة الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات التي جعلها الله على الأرض ، وخلق له ما في الأرض ، وعزّز ذلك النّظام بقوانين وضعها الله على ألسنة المرسلين والصّالحين والحكماء من عباده ، الذين أيّدهم بالوحي والخطاب الإلهي ، أو بالإلهام والتّوفيق والحكمة ، فعلموا النّاس كيف يستعملون ما في الأرض على نظام يحصل به الانتفاع بنفع النّافع وإزالة ما في بعض النّافع من الضرّ وتجنّب ضرّ الضار ، فذلك النّظام الأصلي ، والقانون المعزّز له ، كلاهما إصلاح في الأرض ، لأنّ الأوّل إيجاد الشّيء صالحا ، والثّاني جعل الضّار صالحا بالتّهذيب أو بالإزالة ، وقد مضى في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) في سورة البقرة [١١] ، أنّ الإصلاح موضوع للقدر المشترك بين إيجاد الشّيء صالحا وبين جعل الفاسد صالحا. فالإصلاح هنا مصدر في معنى الاسم الجامد ، وليس في معنى الفعل ، لأنّه أريد به إصلاح حاصل ثابت في الأرض لا إصلاح هو بصدد الحصول ، فإذا غيّر ذلك النّظام فأفسد الصّالح ، واستعمل الضّار على ضرّه ، أو استبقى مع إمكان إزالته ، كان إفسادا بعد إصلاح ، كما أشار إليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال : ٧٣].
والتّصريح بالبعدية هنا تسجيل لفظاعة الإفساد بأنّه إفساد لما هو حسن ونافع ، فلا معذرة لفاعله ولا مساغ لفعله عند أهل الأرض.