عن الأمام ، وليس صريحا ، حيث إنّ الأمام القريب أوسع من الكون بين اليدين ، ثمّ لشهرة هذه الكناية وأغلبيّة موافقتها للمعنى الصريح جعلت كالصّريح ، وساغ أن تستعمل مجازا في التّقدّم والسّبق القريب ، كقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سبأ : ٤٦] ، وفي تقدّم شيء على شيء مع قربه منه من غير أن يكون أمامه ومن غير أن يكون للمتقدّم عليه يدان. وهكذا استعماله في هذه الآية ، أي يرسل الرّياح سابقة رحمته.
والرّحمة هذه أريد بها المطر ، فهو من إطلاق المصدر على المفعول ، لأنّ الله يرحم به. والقرينة على المراد بقيّة الكلام ، وليست الرّحمة من أسماء المطر في كلام العرب فإنّ ذلك لم يثبت ، وإضافة الرّحمة إلى اسم الجلالة في هذه الآية تبعد دعوى من ادعاها من أسماء المطر. والمقصد الأوّل من قوله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) تقريع المشركين وتفنيد إشراكهم ، ويتبعه تذكير المؤمنين وإثارة اعتبارهم ، لأنّ الموصول دلّ على أنّ الصّلة معلومة الانتساب للموصول ، لأنّ المشركين يعلمون أنّ للرّياح مصرّفا وأنّ للمطر منزلا ، غير أنّهم يذهلون أو يتذاهلون عن تعيين ذلك الفاعل ، ولذلك يجيئون في الكلام بأفعال نزول المطر مبنيّة إلى المجهول غالبا ، فيقولون : مطرنا بنوء الثّريا ـ ويقولون : غثنا ما شئنا. مبنيا للمجهول أي أغثنا ، فأخبر الله تعالى بأنّ فاعل تلك الأفعال هو الله ، وذلك بإسناد هذا الموصول إلى ضمير الجلالة في قوله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) أي الذي علمتم أنّه يرسل الرّياح وينزل الماء ، هو الله تعالى كقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] ، فالخبر مسوق لتعيين صاحب هذه الصّلة. فهو بمنزلة الجواب عن استفهام مقصود منه طلب التّعيين في نحو قولهم : أراحل أنت أم ثاو ، ولذلك لم يكن في هذا الإسناد قصر لأنّه لم يقصد به رد اعتقاد ، فإنّهم لم يكونوا يزعمون أنّ غير الله يرسل الرّياح ، ولكنّهم كانوا كمن يجهل ذلك من جهة إشراكهم معه غيره ، فروعي في هذا الإسناد حالهم ابتداء ، ويحصل رعي حال المؤمنين تبعا ، لأنّ السّياق مناسب لمخاطبة الفريقين كما تقدّم في الآية السّابقة.
و (حَتَّى) ابتدائية وهي غاية لمضمون قوله : (بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) ، الذي هو في معنى متقدّمة رحمته ، أي تتقدّمها مدّة وتنشر أسحبتها حتّى إذا أقلّت سحابا أنزلنا به الماء ، فإنزال الماء هو غاية تقدّم الرّياح وسبقها المطر ، وكانت الغاية مجزأة أجزاء فأوّلها مضمون قوله : (أَقَلَّتْ) أي الرّياح السّحاب ، ثمّ مضمون قوله : (ثِقالاً) ، ثم مضمون (سُقْناهُ) أي إلى البلد الذي أراد الله غيثه ، ثمّ أن ينزل منه الماء. وكلّ ذلك غاية لتقدّم