العناية به كقوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ليدلّ على تشريف ذلك النّبات ، فهو في معنى الوصف بالزّكاء ، والمعنى : البلد الطّيب يخرج نباته طيّبا زكيا مثله ، وقد أشار إلى طيب نباته بأنّ خروجه بإذن ربّه ، فأريد بهذا الإذن إذن خاص هو إذن عناية وتكريم ، وليس المراد إذن التّقدير والتّكوين فإنّ ذلك إذن معروف لا يتعلّق الغرض ببيانه في مثل هذا المقام.
(وَالَّذِي خَبُثَ) حمله جميع المفسّرين على أنّه وصف للبلد ، أي البلد الذي خبث وهو مقابل البلد الطّيب ، وفسّروه بالأرض التي لا تنبت إلّا نباتا لا ينفع ، ولا يسرع إنباتها ، مثل السّباخ ، وحملوا ضمير يخرج على أنّه عائد للنّبات ، وجعلوا تقدير الكلام : والذي خبث لا (يخرج) نباته إلّا نكدا ، فحذف المضاف في التّقدير ، وهو نبات ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهو ضمير البلد الذي خبث ، المستتر في فعل يخرج.
والذي يظهر لي : أن يكون (الَّذِي) صادقا على نبات الأرض ، والمعنى : والنّبت الذي خبث لا يخرج إلّا نكدا ، ويكون في الكلام احتباك إذ لم يذكر وصف الطّيب بعد نبات البلد الطّيب ، ولم تذكر الأرض الخبيثة قبل ذكر النّبات الخبيث ، لدلالة كلا الضدّين على الآخر. والتّقدير : والبلد الطّيب يخرج نباته طيّبا بإذن ربّه ، والنّبات الذي خبث يخرج نكدا من البلد الخبيث ، وهذا صنع دقيق لا يهمل في الكلام البليغ.
وقرأ الجميع (لا يَخْرُجُ) ـ بفتح التّحتيّة وضمّ الراء ـ إلّا ابن وردان عن أبي جعفر قرأ بضمّ التّحتيّة وكسر الرّاء ـ على خلاف المشهور عنه ، وقيل إنّ نسبة هذا لابن وردان توهم.
والنّكد وصف من النكد ـ بفتح الكاف وهو مصدر نكد الشّيء إذا كان غير صالح يجرّ على مستعمله شرا. وقرأ أبو جعفر (إِلَّا نَكِداً) ، بفتح الكاف.
وفي تفصيل معنى الآية جاء الحديث الصّحيح عن النّبيء صلىاللهعليهوسلم أنّه قال : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيّة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع بها الله النّاس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى إنّما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع لذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».