انتفاء الاتّقاء دليل على أنّ ثمّة ما يحذر منه ، ولأجل ذلك لم يعيّنوا وعيدا في كلامهم بل أبهموه بقولهم (بِما تَعِدُنا) ، ويحتمل أن يكون الوعيد تعريضا من قوله : (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف : ٦٩] المؤذن بأنّ الله استأصل قوم نوح وأخلفهم بعاد ، فيوشك أن يستأصل عادا ويخلفهم بغيرهم.
وعقّبوا كلامهم بالشّرط فقالوا : (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) استقصاء لمقدرته قصدا منهم لإظهار عجزه عن الإتيان بالعذاب فلا يسعه إلّا الاعتراف بأنّه كاذب ، وجواب الشّرط محذوف دلّ عليه ما قبله تقديره : أتيت به وإلّا فلست بصادق.
فأجابهم بأن أخبرهم بأنّ الله قد غضب عليهم ، وأنّهم وقع عليهم رجس من الله.
والأظهر أنّ : (وَقَعَ) معناه حق وثبت ، من قولهم للأمر المحقّق : هذا واقع ، وقولهم للأمر المكذوب : هذا غير واقع ، فالمعنى حقّ وقدر عليكم رجس وغضب. فالرّجس هو الشّيء الخبيث ، أطلق هنا مجازا على خبث الباطن ، أي فساد النّفس كما في قوله تعالى: (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] ـ وقوله ـ (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٢٥]. والمعنى أصاب الله نفوسهم بالفساد لكفرهم فلا يقبلون الخير ولا يصيرون إليه ، وعن ابن عبّاس أنّه فسّر الرّجس هنا باللّعنة ، والجمهور فسّروا الرّجس هنا بالعذاب ، فيكون فعل : (وَقَعَ) من استعمال صيغة المضي في معنى الاستقبال ، إشعارا بتحقيق وقوعه؟ ومنهم من فسّر الرّجس بالسّخط ، وفسّر الغضب بالعذاب ، على أنّه مجاز مرسل لأنّ العذاب أثر الغضب ، وقد أخبر هود بذلك عن علم بوحي في ذلك الوقت أو من حين أرسله الله ، إذ أعلمه بأنّهم إن لم يرجعوا عن الشّرك بعد أن يبلّغهم الحجّة فإنّ عدم رجوعهم علامة على أنّ خبث قلوبهم متمكّن لا يزول ، ولا يرجى منهم إيمان ، كما قال الله لنوح : (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ١٣٦].
وغضب الله تقديره : الإبعاد والعقوبة والتّحقير ، وهي آثار الغضب في الحوادث ، لأنّ حقيقة الغضب : انفعال تنشأ عنه كراهيّة المغضوب عليه وإبعاده وإضراره.
وتأخير الغضب عن الرّجس لأنّ الرّجس ، وهو خبث نفوسهم ، قد دلّ على أنّ الله فطرهم على خبث بحيث كان استمرارهم على الضّلال أمرا جبلّيا ، فدلّ ذلك على أنّ الله غضب عليهم. فوقوع الرجس والغضب عليهم حاصل في الزّمن الماضي بالنّسبة لوقت قول