قوله : (فَجاءَها بَأْسُنا) لأنّه من بقيّة المذكور ، ويصحّ أن يكون للتّرتيب المعنوي لأنّ دعواهم ترتّبت على مجيء البأس.
والدعوى اسم بمعنى الدّعاء كقوله : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) [يونس : ١٠] وهو كثير في القرآن ، والدّعاء هنا لرفع العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب ، وذلك أنّ شأن النّاس إذا حلّ بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة ، ومعنى الحصر أنّهم لم يستغيثوا الله ولا توجّهوا إليه بالدّعاء ولكنّهم وضعوا الاعتراف بالظّلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدّعوى.
ويجوز أن تكون الدّعوى بمعنى الادّعاء أي : انقطعت كلّ الدّعاوي التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدّد الآلهة وأنّ دينهم حقّ ، فلم تبق لهم دعوى ، بل اعترفوا بأنّهم مبطلون ، فيكون الاستثناء منقطعا لأنّ اعترافهم ليس بدعوى.
واقتصارهم على قولهم : (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) إمّا لأنّ ذلك القول مقدّمة التّوبة لأنّ التّوبة يتقدّمها الاعتراف بالذّنب ، فهم اعترفوا على نيّة أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو ، فعوجلوا بالعذاب ، فكان اعترافهم ـ آخر قولهم في الدّنيا ـ مقدّمة لشهادة ألسنتهم عليهم في الحشر ، وإمّا لأنّ الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدّعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب.
وأيّا ما كان فإنّ جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكّرهم في ظلمهم في مدّة سلامتهم ، ولكنّ العناد والكبرياء يصدّانهم عن الإقلاع عنه ، ومن شأن من تصيبه شدّة أن يجري على لسانه كلام ، فمن اعتاد قول الخير نطق به ، ومن اعتاد ضدّه جرى على لسانه كلام التّسخّط ومنكر القول ، فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولانه في أفكارهم.
والمراد بقولهم : (كُنَّا ظالِمِينَ) أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد ، وتكذيب الرّسل ، والإعراض عن الآيات ، وصم الأذان عن الوعيد والوعظ ، وذلك يجمعه الإشراك بالله ، قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) [الأعراف : ٣] أي أنّ الله لم يظلمهم ، وهو يحتمل أنّهم علموا ذلك بمشاهدة العذاب وإلهامهم أنّ مثل ذلك العذاب لا ينزل إلّا بالظّالمين ، أو بوجدانهم إياه على الصّفة الموعود بها على ألسنة رسلهم ، فيكون الكلام إقرارا محضا أقرّوا به في أنفسهم ، فصيغة الخبر مستعملة في إنشاء الإقرار ، ويحتمل أنّهم كانوا يعلمون أنّهم ظالمون ، من قبل نزول العذاب ، وكانوا مصرين عليه ومكابرين ، فلمّا رأوا العذاب ندموا