٨٥] ، عطف الأعم على الأخص. لأن ما ذكر من القصص ابتداء من قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [الأعراف : ٥٩] كله ، القصد منه العبرة بالأمم الخالية موعظة لكفّار العرب فلما تلا عليهم قصص خمس أمم جاء الآن بحكم كلي يعم سائر الأمم المكذبة على طريقة قياس التمثيل ، أو قياس الاستقراء الناقص ، وهو أشهر قياس يسلك في المقامات الخطابية ، وهذه الجمل إلى قوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى) [يونس : ٧٥] كالمعترضة بين القصص ، للتنبيه على موقع الموعظة ، وذلك هو المقصود من تلك القصص ، فهو اعتراض ببيان المقصود من الكلام وهذا كثير الوقوع في اعتراض الكلام.
وعدّي (أَرْسَلْنا) ب (في) دون (إلى) لأن المراد بالقرية حقيقتها ، وهي لا يرسل إليها وإنما يرسل فيها إلى أهلها ، فالتقدير : وما أرسلنا في قرية من نبيء إلى أهلها إلّا أخذنا أهلها فهو كقوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) [القصص : ٥٩] ولا يجري في هذا من المعنى ما يجري في قوله تعالى الآتي قريبا : (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) [الأعراف : ١١١] إذ لا داعي إليه هنا.
و (مِنْ) مزيد للتنصيص على العموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي ، وتخصيص القرى بإرسال الرسل فيها دون البوادي كما أشارت إليه هذه الآية وغيرها من آي القرآن ، وشهد به تاريخ الأديان ، ينبئ أن مراد الله تعالى من إرسال الرسل هو بث الصلاح لأصحاب الحضارة التي يتطرق إليها الخلل بسبب اجتماع الأصناف المختلفة ، وإن أهل البوادي لا يخلون عن الانحياز إلى القرى والإيواء في حاجاتهم المدنية إلى القرى القريبة ، فأما مجيء نبيء غير رسول لأهل البوادي فقد جاء خالد بن سنان نبيا في بني عبس ، وأما حنظلة بن صفوان نبيء أهل الرسّ فالأظهر أنه رسول لأن الله ذكر أهل الرسل في عداد الأمم المكذبة ، وقد قيل : إنه ظهر بقرية الرس التي تسمى أيضا (فتح) بالمهملة أو (فتخ) بالمعجمة أو (فيج) بتحتية وجيم ، أو فلج (بلام وجيم) من اليمامة.
والاستثناء مفرغ من أحوال ، أي ما أرسلنا نبيّا في قرية في حال من الأحوال إلّا في حال أنّنا أخذنا أهلها بالبأساء ، وقد وقع في الكلام إيجاز حذف دل عليه قوله : (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) فإنه يدل على أنهم لم يضرّعوا قبل الأخذ بالبأساء والضراء ، فالتقدير : وما أرسلنا في قرية من نبيء إلّا كذبه أهل القرية فخوفناهم لعلّهم يذلون لله ويتركون العناد إلخ ...
والأخذ : هنا مجاز في التناول والإصابة بالمكروه الذي لا يستطاع دفعه ، وهو معنى