فمعنى (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) ما لأكثرهم عهد.
والعهد : الالتزام والوعد المؤكّد وقوعه ، والموثّق بما يمنع من إخلافه : من يمين ، أو ضمان ، أو خشية مسبة ، وهو مشتق من عهد الشيء بمعنى عرفه ، لأن الوعد المؤكد يعرفه ملتزمه ويحرص أن لا ينساه.
ويسمى إيقاع ما التزمه الملتزم من عهده الوفاء بالعهد ، فالعهد هنا يجوز أن يراد به الوعد الذي حققه الأمم لرسلهم مثل قولهم : فأننا بآية إن كنت من الصادقين ، فإن معنى ذلك : إن أتيتنا بآية صدقناك. ويجوز أن يراد به وعد وثقه أسلاف الأمم من عهد آدم أن لا يعبدوا إلّا الله وهو المذكور في قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [يس : ٦٠] الآية ، فكان لازما لأعقابهم.
ويجوز أن يراد به ما وعدت به أرواح البشر خالقها في الأزل المحكي في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ذرياتهم (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) [الأعراف : ١٧٢] الآية. وهو عبارة عن خلق الله فطرة البشرية معتقدة وجود خالقها ووحدانيته ، ثم حرفتها النزعات الوثنية والضلالات الشيطانية.
ووقوع اسم هذا الجنس في سياق النفي يقتضي انتفاءه بجميع المعاني الصادق هو عليها.
ومعنى انتفاء وجدانه. هو انتفاء الوفاء به ، لأن أصل الوعد ثابت موجود ، ولكنه لما كان تحققه لا يظهر إلّا في المستقبل ، وهو الوفاء ، جعل انتفاء الوفاء بمنزلة انتفاء الوقوع ، والمعنى على تقدير مضاف ، أي : ما وجدنا لأكثرهم من وفاء عهد.
وإنما عدّي عدم وجدان الوفاء بالعهد في (أَكْثَرَهُمْ) للإشارة إلى إخراج مؤمني كل أمة من هذا الذم ، والمراد بأكثرهم ، أكثر كل أمة منهم ، لا أمة واحدة قليلة من بين جميع الأمم.
وقوله : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) إخبار بأن عدم الوفاء بالعهد من أكثرهم كان منهم عن عمد ونكث ، ولكون ذلك معنى زائدا على ما في الجملة التي قبلها عطفت ولم تجعل تأكيدا للتي قبلها أو بيانا ، لأن الفسق هو عصيان الأمر ، وذلك أنهم كذبوا فيما وعدوا عن قصد للكفر.
و (إن) مخففة من الثقيلة ، وبعدها مبتدأ محذوف هو ضمير الشأن ، والجملة خبر عنه