مستندا إلى أن قتل الذكور منهم كان قبل مجيء موسى بسبب توقع ولادة موسى ، وكان الوعيد بمثله بعد مجيئه بسبب دعوته ، وليس ذلك بمتجه لأنه لو كان هو المراد لما كان للتعبير بقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) موقع ، والإتيان والمجيء مترادفان ، فذكر المجيء بعد الإتيان ليس لاختلاف المعنى ، ولكنه للتفنن وكراهية إعادة اللفظ.
والإتيان والمجيء مدلولهما واحد ، وهو بعثة موسى بالرسالة ، فجعل الفعل المعبّر عنه حين علق به (قبل) بصيغة المضارع المقترن ب (أن) الدالة على الاستقبال والمصدرية لمناسبة لفظ (قبل) لأن ما يضاف إلى (قبل) مستقبل بالنسبة لمدلولها ، وجعل حين علق به (بعد) بصيغة الماضي المقترن بحرف (ما) المصدرية لأن (ما) المصدرية لا تفيد الاستقبال ليناسب لفظ (بعد) لأن مضاف كلمة (بعد) ماض بالنسبة لمدلولها.
فأجابهم موسى بتقريب أن يكونوا هم الذين يرثون ملك الأرض والذين تكون لهم العاقبة.
وجاء بفعل الرجاء دون الجزم تأدبا مع الله تعالى ، وإقصاء للاتكال على أعمالهم ليزدادوا من التقوى والتعرض إلى رضى الله تعالى ونصره. فقوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) ناظر إلى قوله : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) [الأعراف : ١٢٨] وقوله : (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) ناظر إلى قوله (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨].
والمراد بالعدو ، فرعون وحزبه ، فوصف عدو يوصف به الجمع قال تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤].
والمراد بالاستخلاف : الاستخلاف عن الله في ملك الأرض. والاستخلاف إقامة الخليفة ، فالسين والتاء لتأكيد الفعل مثل استجاب له ، أي جعلهم أحرارا غالبين ومؤسسين ملكا في الأرض المقدسة.
ومعنى (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) التحذير من أن يعملوا ما لا يرضي الله تعالى ، والتحريض على الاستكثار من الطاعة ليستحقوا وصف المتقين ، تذكيرا لهم بأنه عليم بما يعملونه.
فالنظر مستعمل في العلم بالمرئيات ، والمقصود بما (تَعْمَلُونَ) عملهم مع الناس في سياسة ما استخلفوا فيه ، وهو كله من الأمور التي تشاهد إذ لا دخل للنيات والضمائر في السياسة وتدبير الممالك ، إلّا بمقدار ما تدفع إليه النيات الصالحة من الأعمال المناسبة