ولم يزده على أربعين ليلة : إما لأنه قد بلغ أقصى ما تحتمله قوته البشرية فباعده الله من أن تعرض له السّآمة في عبادة ربه ، وذلك يجنّب عنه المتقون بله الأنبياء ، وقد قال النبيصلىاللهعليهوسلم عليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإما لأن زيادة مغيبه عن قومه تفضي إلى أضرار ، كما قيل : إنهم عبدوا العجل في العشر الليالي الأخيرة من الأربعين ليلة ، وسميت زيادة الليالي العشر إتماما إشارة إلى أن الله تعال ى أراد أن تكون مناجاة موسى أربعين ليلة ، ولكنه لما أمره بها أمره بها مفرقة ، إما لحكمة الاستيناس ، وإما لتكون تلك العشر عبادة أخرى فيتكرر الثواب ، والمراد الليالي بأيامها فاقتصر على الليالي ؛ لأن المواعدة كانت لأجل الانقطاع للعبادة وتلقي المناجاة.
والنفس في الليل أكثر تجردا للكمالات النفسانية ، والأحوال الملكية ، منها في النهار ، إذ قد اعتادت النفوس بحسب أصل التكوين الاستيناس بنور الشمس والنشاط به للشغل ، فلا يفارقها في النهار الاشتغال بالدنيا ولو بالتفكر وبمشاهدة الموجودات ، وذلك ينحطّ في الليل والظلمة ، وتنعكس تفكرات النفس إلى داخلها ، ولذلك لم تزل الشريعة تحرض على قيام الليل وعلى الابتهال فيه إلى الله تعالى ، قال : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة : ١٦] الآية ، وقال : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، وفي الحديث : «ينزل ربّنا كل ليلة إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول هل من مستغفر فأغفر له ، هل من داع فأستجيب له» ولم يزل الشغل في السهر من شعار الحكماء والمرتاضين لأن السهر يلطف سلطان القوة الحيوانية كما يلطفها الصوم قال في «هياكل النور» «النّفوس الناطقة من عالم الملكوت ، وإنما شغلها عن عالمها القوى البدنية ومشاغلتها فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحيانا إلى عالم القدس وتتصل بربها وتتلقى منه المعارف».
على أن الغالب في الكلام العربي التوقيت بالليالي ، ويريدون أنها بأيامها ، لأن الأشهر العربية تبتدأ بالليالي إذ هي منوطة بظهور الأهلة.
وقوله (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) فذلكة الحساب كما في قوله : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦] ، فالفاء للتفريع.
والتمام الذي في قوله : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ) مستعمل في معنى النماء والتفوق فكان ميقاتا أكمل وأفضل كقوله تعالى : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) [الأنعام : ١٥٤] إلى قوله : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] إشارة إلى أن زيادة العشر كانت لحكمة عظيمة تكون