والافتراء الكذب الذي لا شبهة لكاذبه في اختلاقه ، وقد مضى في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) في سورة المائدة [١٠٣].
والمراد بالافتراء الاختلاق في أصول الدين بوضع عقائد لا تستند إلى دليل صحيح من دلالة العقل أو من دلالة الوحي ، فإن موسى عليهالسلام كان حذرهم من عبادة الأصنام كما حكاه الله فيما مضى في قوله تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ ...) [الأعراف : ١٣٨ ـ ١٤٠] الآيات الثلاث المتقدمة آنفا ، فجعل الله جزاءهم على الافتراء الغضب والذلة ، وذلك إذا فعلوا مثله بعد أن جاءتهم الموعظة من الله ، ولذلك لم يكن مشركو العرب أذلّاء ، فلما جاء محمد صلىاللهعليهوسلم وهداهم فاستمروا على الافتراء عاقبهم الله بالذلة ، فأزال مهابتهم من قلوب العرب ، واستأصلهم قتلا وأسرا ، وسلب ديارهم ، فلما أسلم منهم من أسلموا صاروا أعزة بالإسلام.
ويؤخذ من هذه الآية أن الكذاب يرمى بالمذلّة.
وقوله : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا) الآية اعتراض بأنهم إن تابوا وآمنوا يغفر الله لهم على عادة القرآن من تعقيب التهديد بالترغيب ، والمغفرة ترجع إلى عدم مؤاخذتهم بذنوبهم في عقاب الآخرة ، وإلى ارتفاع غضب الله عنهم في المستقبل ، والمراد بالسيئات : ما يشمل الكفر ، وهو أعظم السيّئات. والتوبة منه هي الإيمان.
وفي قوله : (مِنْ بَعْدِها) في الموضعين حذف مضاف قبل ما أضيفت إليه (بعد) ـ وقد شاع حذفه ـ دل عليه (عَمِلُوا) أي من بعد عملها ، وقد تقدم الكلام على حذف المضاف مع (بعد) و (قبل) المضافين إلى مضاف للمضاف إليه عند قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) في سورة البقرة [٥١].
وحرف (ثم) هنا مفيد للتراخي ، وذلك إلجاء إلى قبول التوبة ، ولو بعد زمان طويل مملوء بفعل السيّئات.
وقوله : (مِنْ بَعْدِها) تأكيد لمفاد المهلة التي أفادها حرف (ثم) وهذا تعريض للمشركين بأنهم إن آمنوا يغفر لهم ولو طال أمد الشرك عليهم.
وعطف الإيمان على التوبة ، مع أن التوبة تشمله من حيث إن الإيمان توبة من الكفر ، إما للاهتمام به ، لأنه أصل الاعتداد بالأعمال الصالحة عند الله تعالى كقوله :