اعتراف لله تعالى بمظهر قدرته العظيمة ، وأمر إبليس بالسّجود له كذلك ، فأمّا الملائكة فامتثلوا أمر الله ولم يعلموا حكمته ، وانتظروا البيان ، كما حكى عنهم بقوله : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ٣٢] فجاءهم البيان مجملا بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] ثمّ مفصّلا بقصّة قوله : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٣١] ـ إلى قوله ـ (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) في سورة البقرة [٣٣].
وقد عاقبه الله على عصيانه بإخراجه من المكان الذي كان فيه في اعتلاء وهو السّماء ، وأحل الملائكة فيه ، وجعله مكانا مقدّسا فاضلا على الأرض فإنّ ذلك كلّه بجعل إلهي بإفاضة الأنوار وملازمة الملائكة ، فقال له : (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها).
والتّعبير بالهبوط إمّا حقيقة إن كان المكان عاليا ، وإمّا استعارة للبعد عن المكان المشرّف ، بتشبيه البعد عنه بالنّزول من مكان مرتفع وقد تقدّم ذلك في سورة البقرة.
والفاء في جملة : (فَاهْبِطْ) لترتيب الأمر بالهبوط على جواب إبليس ، فهو من عطف كلام متكلّم على كلام متكلّم آخر ، لأنّ الكلامين بمنزلة الكلام الواحد في مقام المحاورة ، كالعطف الذي في قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤].
والفاء دالة على أن أمره بالهبوط مسبّب عن جوابه.
وضمير المؤنّث المجرور بمن في قوله : (مِنْها) عائد على المعلوم بين المتكلّم والمخاطب ، وتأنيثه إمّا رعي لمعناه بتأويل البقعة ، أو للفظ السّماء لأنّها مكان الملائكة ، وقد تكرّر في القرآن ذكر هذا الضّمير بالتّأنيث.
وقوله : (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) الفاء للسّببيّة والتّفريع تعليلا للأمر بالهبوط ، وهو عقوبة خاصه عقوبة إبعاد عن المكان المقدّس ، لأنّه قد صار خلقه غير ملائم لمّا جعل الله ذلك المكان له ، وذلك خلق التّكبر لأنّ المكان كان مكانا مقدّسا فاضلا لا يكون إلّا مطهّرا من كلّ ما له وصف ينافيه وهذا مبدأ حاوله الحكماء الباحثون عن المدينة الفاضلة وقد قال مالك رحمهالله : لا تحدثوا بدعة في بلدنا. وهذه الآية أصل في ثبوت الحقّ لأهل المحلّة أن يخرجوا من محلّتهم من يخشى من سيرته فشوّ الفساد بينهم.