كما في قول النّابغة :
قعودا لدى أبياتهم يثمدونهم |
|
رمى الله في تلك الأكف الكوانع |
أي ملازمين أبياتا لغيرهم يرد الجلوس ، إذ قد يكونون يسألون واقفين ، وماشين ، ووجه الكناية هو أنّ ملازمة المكان تستلزم الإعياء من الوقوف عنده ، فيقعد الملازم طلبا للرّاحة ، ومن ثم أطلق على المستجير اسم القعيد ، ومن إطلاق القعيد على الملازم قوله تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧] أي ملازم إذ الملك لا يوصف بقعود ولا قيام.
ولمّا ضمن فعل : (لَأَقْعُدَنَ) معنى الملازمة انتصب (صِراطَكَ) على المفعولية ، أو على تقدير فعل تضمّنه معنى لأقعدن تقديره : فامنعنّ صراطك أو فأقطعنّ عنهم صراطك ، واللّام في لهم للأجل كقوله : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) [التوبة : ٥].
وإضافة الصّراط إلى اسم الجلالة على تقدير اللّام أي الصّراط الذي هو لك أي الذي جعلته طريقا لك ، والطّريق لله هو العمل الذي يحصل به ما يرضي الله بامتثال أمره ، وهو فعل الخيرات ، وترك السيّئات ، فالكلام تمثيل هيئة العازمين على فعل الخير ، وعزمهم عليه ، وتعرّض الشّيطان لهم بالمنع من فعله ، بهيئة السّاعي في طريق إلى مقصد ينفعه وسعيه إذا اعترضه في طريقة قاطع طريق منعه من المرور فيه.
والضّمير في (لَهُمْ) ضمير الإنس الذين دلّ عليهم مقام المحاورة ، التي اختصرت هنا اختصارا دعا إليه الاقتصار على المقصود منها ، وهو الامتنان بنعمة الخلق ، والتّحذير من كيد عدوّ الجنس ، فتفصيل المحاورة مشعر بأنّ الله لمّا خلق آدم خاطب أهل الملإ الأعلى بأنّه خلقه ليعمر به وبنسله الأرض ، كما أنبأ بذلك قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] فالأرض مخلوقة يومئذ ، وخلق الله آدم ليعمرها بذريته وعلم إبليس ذلك من إخبار الله تعالى الملائكة فحكى الله من كلامه ما به الحاجة هنا : وهو قوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الآية وقد دلّت آية سورة الحجر على أنّ إبليس ذكر في محاورته ما دلّ على أنّه يريد إغواء أهل الأرض في قوله تعالى : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٣٩ ، ٤٠] فإن كان آدم قد خلق في الجنّة في السّماء ثمّ أهبط إلى الأرض فإن علم إبليس بأنّ آدم يصير إلى الأرض قد حصل من إخبار الله تعالى بأن يجعله في الأرض خليفة ، فعلم أنّه صائر إلى الأرض بعد حين ، وإن كان آدم قد خلق في جنّة