المقول المحكي يقال : أي قال الله لإبليس اخرج منها وقال لآدم (وَيا آدَمُ اسْكُنْ) ، وهذا من عطف المتكلّم بعض كلامه على بعض ، إذا كان لبعض كلامه اتّصال وتناسب مع بعضه الآخر ، ولم يكن أحد الكلامين موجّها إلى الذي وجّه إليه الكلام الآخر ، مع اتّحاد مقام الكلام ، كما يفعل المتكلّم مع متعدّدين في مجلس واحد فيقبل على كل مخاطب منهم بكلام يخصه ومنه قول النّبيء صلىاللهعليهوسلم في قضيّة الرّجل والأنصاري الذي كان ابن الرّجل عسيفا عليه : «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عزوجل أما الغنم والجارية فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس على زوجة هذا فإن اعترفت فارجمها» ، ومن أسلوب هذه الآية ما في قوله تعالى : (قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) [يوسف : ٢٨ ، ٢٩] حكاية لكلام العزيز ، أي العزيز عطف خطاب امرأته على خطابه ليوسف.
فليست الواو في قوله : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ) بعاطفة على أفعال القول التي قبلها حتّى يكون تقدير الكلام : وقلنا يا آدم اسكن ، لأنّ ذلك يفيت النّكت التي ذكرناها ، وذلك في حضرة واحدة كان فيها آدم والملائكة وإبليس حضورا.
وفي توجيه الخطاب لآدم بهذه الفضيلة بحضور إبليس بعد طرده زيادة إهانة ، لأنّ إعطاء النّعم لمرضي عليه في حين عقاب من استأهل العقاب زيادة حسرة على المعاقب ، وإظهارا للتّفاوت بين مستحقّ الإنعام ومستحقّ العقوبة فلا يفيد الكلام من المعاني ما أفاده العطف على المقول المحكي ، ولأنّه لو أريد ذلك لأعيد فعل القول. ثمّ إن كان آدم خلق في الجنّة ، فكان مستقرا بها من قبل ، فالأمر في قوله : (اسْكُنْ) إنّما هو أمر تقرير : أي أبق في الجنّة ، وإن كان آدم قد خلق خارج الجنّة فالأمر للإذن تكريما له ، وأيّا ما كان ففي هذا الأمر ، بمسمع من إبليس ، مقمعة لإبليس ، لأنّه إن كان إبليس مستقرا في الجنّة من قبل فالقمع ظاهر إذ أطرده الله وأسكن الذي تكبّر هو عن السّجود إليه في المكان المشرّف الذي كان له قبل تكبّره ، وإن لم يكن إبليس ساكنا في الجنّة قبل فإكرام الذي احتقره وترفع عليه قمع له ، فقد دلّ موقع هذا الكلام ، في هذه السّورة ، على معنى عظيم من قمع إبليس ، زائد على ما في آية سورة البقرة ، وإن كانتا متماثلتين في اللّفظ ، ولكن هذا المعنى البديع استفيد من الموقع وهذا من بدائع إعجاز القرآن.
ووجد إيثار هذه الآية بهذه الخصوصية إنّ هذا الكلام مسوق إلى المشركين الذين اتخذوا الشّيطان وليا من دون الله ، فأمّا ما في سورة البقرة فإنّه لموعظة بني إسرائيل ، وهم