و «التضرع» التذلل ـ ولما كان التذلل يستلزم الخطاب بالصوت المرتفع في عادة العرب كني بالتضرع عن رفع الصوت مرادا به معناه الأصلي والكنائي ، ولذلك قوبل بالخفية في قوله (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) في أوائل هذه السورة [٥٥] وقد تقدم.
وقوبل التضرع هنا بالخيفة وهي اسم مصدر الخوف ، فهو من المصادر التي جاءت على صيغة الهيئة وليس المراد بها الهيئة ، مثل الشدة ، ولما كانت الخيفة انفعالا نفسيا يجده الإنسان في خاصة نفسه كانت مستلزمة للتخافت بالكلام خشية أن يشعر بالمرء من يخافه. فلذلك كني بها هنا عن الإسرار بالقول مع الخوف من الله ، فمقابلتها بالتضرع طباق في معنيي اللفظين الصريحين ومعنييهما الكنائيين ، فكأنه قيل تضرعا وإعلانا وخيفة وإسرارا.
وقوله : (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) هو مقابل لكل من التضرع والخيفة وهو الذكر المتوسط بين الجهر والإسرار ، والمقصود من ذلك استيعاب أحوال الذكر باللسان ، لأن بعضها قد تكون النفس أنشط إليه منها إلى البعض الآخر.
و (الغدو) اسم لزمن الصباح وهو النصف الأول من النهار.
و (الآصال) جمع أصيل وهو العشي وهو النصف الثاني من النهار إلى الغروب.
والمقصود استيعاب أجزاء النهار بحسب المتعارف ، فأما الليل فهو زمن النوم ، والأوقات التي تحصل فيها اليقظة خصت بأمر خاص مثل قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) [المزمل : ٢] على أنها تدخل في عموم قوله : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ).
فدل قوله : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) على التحذير من الغفلة عن ذكر الله ولا حد للغفلة ، فإنها تحدد بحال الرسول صلىاللهعليهوسلم وهو أعلم بنفسه. فإن له أوقاتا يتلقى فيها الوحي وأوقات شئون جبلّية كالطعام.
وهذا الأمر خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام ، وكل ما خص به الرسول عليه الصلاة والسلام من الوجوب يستحسن للأمة اقتداؤهم به فيه إلا ما نهوا عنه مثل الوصال في الصوم.
وقد تقدم أن نحو (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) أشد في الانتفاء وفي النهي من نحو : ولا تغفل ، لأنه يفرض جماعة يحق عليهم وصف الغافلين فيحذر من أن يكون في زمرتهم وذلك أبين للحالة المنهي عنها.